الخطاب الذي القاه أمس الرئيس جورج بوش الابن استغل فيه حادث 11 سبتمبر 2001 المأساوي في اميركا، لإحكام قبضة الولايات المتحدة على أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، بفرض الأجندة الأميركية ومحورها «محاربة الإرهاب» وربطها بموضوع الحملة على العراق. فالرئيس الاميركي ما برح يحاول أن يثبت الفرضية الأميركية بعلاقة النظام العراقي بتنظيم «القاعدة». ليس هذا فحسب بل انه يحاول إقناع العالم بأن منظمات مثل «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«حزب الله» منظمات إرهابية على العالم محاربتها. وهذا توجه اميركا لتطبيق النطام العالمي الجديد في العلاقات الدولية القائم على نظام القطب الواحد، وأطلق عليه تعبير «امتيازات الدولة العظمى».
بدأت علامات سيطرة أميركا على الأمم المتحدة ومنظماتها التابعة عندما دبرت مؤامرة اغتيال الأمين العام السابق داغ همرشولد، عندما حاول مساعدة لوموبا لنيل استقلال الكونغو، إلى تعيين أمناء عامين للأمم المتحدة أمثال: دي كويلار وبطرس غالي وكوفي عنان، كما ظهرت سيطرتها بعد أن تفردت بوضع شروطها لانضمام دول مهمة كالصين والسعودية وروسيا إلى منظمة التجارة العالمية (WTO). المؤكد ان عقد الدورة السابعة والخمسين سيكون مختلفا تماما سواء في جدول الأعمال أو في المناقشات العامة في الأمم المتحدة، وقد يجد الكثير صدقية في انتقادات أسامة بن لادن للأمم المتحدة وأمينها العام، الذي اعتبرته بعض الدول مجرد موظف في الوفد الأميركي.
الواقع المرير أن الامتين العربية والإسلامية تأخرت قضاياهما كثيرا وفقدتا التأييد العارم السابق، خصوصا قضايا فلسطين والعراق وأفغانستان والسودان والصومال، بالإضافة إلى قضايا حركات التحرر الإسلامية في الفليبين والشيشان وكشمير، التي ألصقت أميركا بها تهمة الإرهاب.
الحقيقة أن تقليد انعقاد دورة الجمعية العامة للامم المتحدة في النصف الثاني من شهر سبتمبر من كل عام، الهدف منه استمرار اكبر تجمع أممي تشهده الأرض، يجمع العديد من سياسيي وزعماء العالم لمناقشة قضايا العالم، لكن هل حقق هذا التجمع العالمي طموحات شعوب الأرض؟ الجواب هو أن القوى الاقتصادية الكبرى مازالت تكرس هيمنتها على البلدان الفقيرة كما حدث فعليا في قمة الأرض الثانية في جوهانسبرغ. هذه الدول بلا شك تملك مفاتيح اللعبة السياسية في العالم وتستطيع حل مشكلاته، ولكن هل يستطيع جدول أعمال الدورة الـ 57 العمل على تضييق الفوارق بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية، وحل اكثر المشكلات إلحاحا في العالم: كاتساع الفقر في العالم الثالث ومشكلات العولمة، وحل النزاعات الإقليمية، والسيطرة على الأمراض الفتاكة، بالاضافة إلى قضايا التنمية المستدامة في العالم الثالث؟
هذا التحدي سيبقى قائما بالفعل، على رغم ان شعوب العالم تنظر إلى الأمم المتحدة وكأنها معجزة الحكومة الدولية، طبعا ستتحرر من السيطرة الأميركية، إذا استطاعت تقليص نسبة الفقر إلى النصف قبل حلول العام 2015، وايصال الغذاء والدواء إلى كل فرد يحتاج إليهما في البلدان الفقيرة. وفي الوقت الذي نجحت فيه البلدان المتقدمة في وقف انتشار فيروس الإيدز، لم تحظ البلدان الفقيرة وخصوصا البلدان الإفريقية بالحصول على العقاقير أو الأمصال الخاصة بمعالجة المرض، بينما يموت فيها الآلاف من أبنائها لعدم توافر إمكانات معالجة المرض لديها، لذلك كيف يستطيع المجتمع الدولي القضاء على المرض بحلول العام 2010 في ظل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير المستقرة في هذه البلدان، وظهور مرض بيولوجي جديد يسمى «الانتراكس» او «الجمرة الخبيثة» وخطر انتشاره عالميا؟
من ناحية اخرى فإن دعم عمليات حفظ السلام في الأماكن المضطربة من العالم يعاني من مشكلات عدة على رغم نجاح عملية تحرير الكويت وتيمور الشرقية، وفشل الامم المتحدة في الشرق الأوسط والصومال ورواندا وسيراليون وافريقيا الوسطى. هذا الملف الساخن التهب جدا بعد أن ركنت دول حلف الناتو الأمم المتحدة جانبا، وباشرت عمليات قتالية في كوسوفو من دون اللجوء إلى الأمم المتحدة أو انتظار الاجماع الدولي أو استصدار قرار من مجلس الأمن. وأميركا تعاود الكرة هذه السنة لأنها ستهاجم العراق من دون موافقة الأمم المتحدة. الامر نفسه ينطبق على الحرب الاميركية البريطانية على افغانستان لمحاربة الارهاب، أو فرض اميركا وبريطانيا مناطق الحظر الجوي في العراق.
ليس هناك مجال للشك في أن العالم مقبل على أزمة انفجار سكاني حقيقية، ويتعين على قادة العالم إيجاد حلول عملية ناجعة لخفض عدد السكان في العالم إلى النصف، هذا التحدي يبقي قائما مادام هنالك اكثر من بليون نسمة يعيشون على اقل من دولار في اليوم، وآخرون لا يتوافر لهم ماء نظيف ولا طعام للأكل، مما ينذر بحدوث أزمة غذائية وبطالة وأزمة اقتصادية خانقة بالإضافة الى انتشار الجريمة ومسبباتها وفقا للدراسات التي وضعها مؤتمر كوبنهايغن للتنمية الاجتماعية.
كما يتعين عليهم إتاحة الفرصة لدول العالم الثالث للتعليم الأساسي للذكور والإناث، وعلى رغم التطور العلمي والتكنولوجي الذي يشهده العالم، مازال نصف سكان العالم يرزحون تحت وطأة الجهل ومازال دور المرأة في التنمية مهمشا لافتقارها للتعليم في الكثير من دول العالم.
في الوقت الذي تسعى فيه الأمم المتحدة لدعم خطتها للقرن الواحد والعشرين، لا يبدو أعضاء المنظمة متحمسين لتوسيع صلاحيات الأمم المتحدة أو تحديدها أو إعادة هيكلة وظائفها. وإذا كانت المانيا واليابان - الدولتان المنبوذتان سابقا من قبل المجتمع الدولي - تسعيان للحصول على عضوية دائمة في مجلس الأمن، فإن الدول النامية التي تشكل غالبية في الأمم المتحدة تسعى إلى اعادة هيكلة المنظمة، بحيث يتم اعادة توزيع الصلاحيات بين مجلس الأمن والجمعية العامة والغاء حق التصويت، أو توسيع عدد أعضاء مجلس الأمن، أو أن يقيد حق النقض الفيتو. لذلك يجب تركيز جهود الأمم المتحدة على تقديم الدعم اللازم لأغراض التنمية. ربما يتفق الجميع على مسألة تقليص النفقات لأنها ستقلص جهازها البيروقراطي الذي تجاوز ضخامته كل الحدود، وحل أزمة ديون الولايات المتحدة المستحقة لأمم المتحدة والتي تصل إلى مليارات الدولارات.
ولايجاد حل عادل لمشكلة مجلس الأمن، لابد من الانصاف في تمثيل الدول في مجلس الأمن وفق التوزيع الجغرافي. وتبقي مسألة حق النقض الذي يتمتع به أعضاء مجلس الأمن الخمسة الدائمين، ومن الصعب تصور أداء مجلس الامن لمهامه بحرمان الأعضاء الدائمين من حق الفيتو، ربما البديل إيجاد مجلس أمن يعمل على أساس الاجماع، وإذا تحقق ذلك فإن مسألة الالزامية تبقى من دون فعالية، الاقتراح الآخر هو اعتماد غالبية الأصوات، وهذا يتيح لدولتين صغيرتين بأصواتهما المشتركة إلغاء مشاريع قرارات الدول الكبرى، وهذا يعني استغناء تلك الدول عن مجلس الأمن أو حتى الانسحاب من الأمم المتحدة. ويقول الخبير في شئون الأمم المتحدة بمدرسة نيويورك للقانون إدوارد لوك: «إن هناك صراعا حقيقيا على جوهر وروح المنظمة، وان اولئك الذين يسعون لإبطاء سير وتيرة العولمة يتركون بالفعل آثارا سلبية على فعالية المنظمة». نظرية لوك للعولمة واحتواء الأمم المتحدة شرع كوفي عنان بتطبيقها وفقا للنهج الأميركي. نظرة عنان لعولمة الأمم المتحدة تسببت في انقسام الجمعية العامة في العام الماضي، حين تحدث عنان بصراحة قائلا انه حين تغرق دولة ما في آفة أو حرب أو صراع فإن على المجتمع الدولي التدخل، وحينها لا ينبغي أن تكون الحدود حائلا دون تحقيق ذلك، وعندها لا تستطيع الحكومات استخدام السيادة كدرع في اضطهادها ومحاربتها لشعوبها. تأثر عنان بالمفردات السياسية الأميركية يتناقض مع مواد ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، اللذين ينصان صراحة على حق الدول في السيادة على أراضيها وعدم التدخل في شئونها الداخلية.
عارضت الصين وروسيا هذا النهج العولمي للأمم المتحدة. لكنهما ايدتا الضربات الاميركية ضد أفغانستان لأنها تتوافق مع مصالحهما. واقترحت الصين ابقاء القضايا الداخلية للدول بعيدة عن نقاشاتها. روسيا أيضا عارضت التوجه الأميركي بتدخل الأمم المتحدة في القضايا الداخلية للدول، ويدفعها إلى ذلك عدم رغبتها في التدخل في أسلوبها العسكري للقضاء على المعارضة الشيشانية. والأمر ذاته ينطبق على الهند بشأن كشمير، وحتى استراليا ضد التدخل في الشئون الداخلية للدول، وأعلنت أنها ستحد من تعاونها مع مندوبي الأمم المتحدة الذين يتابعون التحقيقات في قضايا التمييز العنصري ضد السكان الأصليين الاستراليين. عولمة الأمم المتحدة سياسيا تتضح جليا في عملياتها العسكرية في الكثير من دول العالم. الأمم المتحدة أعدت لحملتها العسكرية ضد العراق في حرب الخليج، وحملة تيمور الشرقية وغيرهما من الحملات العسكرية في افريقيا وآسيا. كما أن إلقاء القبض على الجنرال التشيلي بينوشيه، ورئيس يوغسلافيا كارزيتش، يشكل مظهرا من مظاهر العولمة السياسية. وهذا يعني أن تدخل الأمم المتحدة في شئون الدول الداخلية لا تمنعه مطالبات الدول بعدم المساس بسيادتها الإقليمية. جميع هذه الحوادث اقنعتني بأن الأمم المتحدة تعيش في عصر جديد، وان عولمة الأمم المتحدة حقيقة قائمة فرضتها أميركا وحليفاتها الغربيات. قد تكون العولمة ذات فائدة للبعض ويمكن أن يستفيد منها الجميع، فقط عندما تعمل الدول سويا لوضع فوائد العولمة في متناول شعوبها كافة. إلا أن البعض الآخر يرى فيها تدخلا سافرا في شئون الدول والشعوب وثقافاتها، وسيبقى البلايين يعيشون في فقر مقذع حتى تتحقق العدالة الاقتصادية. البلدان التي بدأت بتحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية ستصبح تحت رحمة المتغيرات الاقتصادية المفاجئة.
الأمم المتحدة قد تكون المحفل الدولي لمعالجة تأثير العولمة على اقتصاديات الدول النامية، وبامكانها إحداث تغيرات هيكلية في الاقتصاد العالمي ووضع خطط للتنمية. الأمم المتحدة روجت لأفكار العولمة في منظمة التجارة العالمية وهي تشهد تحولا في المنظمات الأخرى التابعة لها نحو العولمة. وقد أيد بيان الامين العام للأمم المتحدة في الدورة 56 المعروف بـ «قمة العمل لا الاحتفال»، عولمة الأمم المتحدة، وأكد البيان أن الأزمة الاقتصادية الآسيوية كان لها آثار اقتصادية على دول العالم، وان اي تغيير اقتصادي في اي مكان من العالم، يمكن الشعور به في كل مكان ولكن بصورة غير متساوية أو عادلة. كما أظهرت الاحتجاجات أثناء اجتماعات مؤتمر منظمة التجارة العاليمة في سياتل وقطر وإيطاليا، أن الكثير من الناس ليسوا سعداء بالعولمة أو طريقة تعاملها مع حقوق الطبقات الفقيرة، ويشعرون بأن المصالح التجارية تلقى الكثير من الاهتمام، بينما لم تلق المصالح الاجتماعية أو الثقافية أو البيئية الاهتمام الكافي كما أوضحت قمة الأرض الثانية التي أطلق عليها رئيس جنوب أفريقيا موبنبيكي «قمة إنهاء الفصل الاقتصادي بين الشمال والجنوب». يرى عنان أن العالم يواجه تحديات كونية تجبر دول العالم على العمل سويا، وإذا ما صدقت هذه المقولة فإن العمل المشترك في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، سينطبق عليه العمل المشترك للتدخل الدولي لحل النزاعات والحروب الإقليمية والدولية، مما يهدد وجود الأمم المتحدة نفسها.
غريزة التضامن البشري التي تدفع بعض الدول إلى مساعدة مواطني بعضها الآخر، أو توجيه الاتهام إلى الطغاة السابقين لدى بعضها عن مسئولياتهم وسلطاتهم الخاصة، فإن هذا النهج سيجلب خطر الفوضى السياسية في العالم. ربما أن العالم سيصبح اكثر أمانا وعدلا عندما تحاكم محكمة جنائية دولية القتلة والسفاحين (وهذه المحكمة الدولية مازالت أميركا وإسرائيل لا تعترفان بها)، الذين ارتكبوا جرائم مشينة في حق الانسانية، والذين لا تستطيع المحاكم الوطنية في بلدانهم محاكمتهم، أو لا ترغب في ذلك كما حدث مع مجرمي حربي البوسنة وكوسوفو. الحقيقة أن الناس لن يثقوا بالأمم المتحدة إلا عندما تتصرف لصالحهم في حال شعورهم بالتهديد والتدمير الشامل. والأمر الأكثر بداهة هو أننا بحاجة إلى العمل معا للحفاظ على الموارد وثروات الأرض الطبيعية التي يعتمد عليها سكان الأرض جميعا. وإلا سنكون مسئولين أمام احفادنا الذين سيوجهون أصابع الاتهام لنا ولَوْمنا لتَرْكنا كوكب الأرض غير صالح للعيش فيه إلى حد كبير، أو غير قادر على توفير استمرار للحياة البشرية.
الواقع ان هناك امكانا لوقوع كارثة بيئية شاملة بسبب تصاعد المستوى العالمي لتلوث الطبيعة بعوادم الصناعات المتنوعة في الدول الصناعية الكبرى، وتأثير النفايات النووية الخطير على البيئة والعيش الآدمي، بالاضافة إلى الغازات المختلفة ولا سيما عوادم السيارات مما يؤثر على التغير المناخي، وإحداث شرخ عميق في طبقة الأوزون بسبب الاحتباس الحراري.
الصراع الدائر بين الاقتصاديات الكبرى بزعامة أميركا، للهيمنة على الاسواق والتجارة العالمية، قد يحدث أزمات اقتصادية ومالية شاملة على شاكلة ما حدث في بلدان جنوب شرق آسيا، ويسبب نقصا حادا في الطاقة والمواد الغذائية وانهيارا للنظام المالي العالمي.
احتمال وقوع كارثة نووية بعد أن شهد العالم انفلاتا نوويا في تشرنوبل واليابان وغرق الغواصة النووية الروسية، ورفض دول كثيرة الانضمام لمعاهدة وقف التجارب النووية حتى لا تخضع منشآتها النووية لعمليات التفتيش.
إمكان تفشي وباء شامل وجارف لا أحد يستطيع تحديد عدد ضحاياه وعواقبه، وسيكون بمثابة إطلاق عدة قنابل نووية حسب مصادر المؤسسات العلمية العالمية المتخصصة بالوضع الايكولوجي العالمي.
الاجراءات الوقائية التي ستتخذها الأمم المتحدة لمواجهة تلك المخاطر يجب أن تكون فعالة، بحيث تضمن المحافظة على الحضارة البشرية، لكن كيف يمكن للمجتمع الدولي توحيد الجهود لإنقاذ البشرية من تلك الأخطار؟ إنني اعتقد انه على الأمم المتحدة في ظل عصر العولمة تسخير القدرة العلمية والتكنولوجية وتوظيف جميع القدرات البشرية، والتعاون بين البلدان الأعضاء وترسيخ مبدأ العمل المشترك لتجنب حدوث تلك الكوارث.
اذا لا يمكن تحرر الأمم المتحدة من السيطرة الأميركية من دون تفعيل دور الأمم المتحدة لخدمة شعوب العالم كافة، وما لم تعمل دول العالم نفسها على تحرير نفسها من السيطرة القطبية الواحدة بإقامة نظام عالمي جديد قائم على التعاون الاقتصادي فيما بين الدول. إذا كان بالفعل هدف الأمم المتحدة هو: مواصلة العمل المضني لتخليص البشرية من مآسي الحروب والنزاعات الإقليمية والقومية والدينية والأمراض الفتاكة، والمساعدة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وإصلاح واعادة هيكلة وظائف الأمم المتحدة بمشاركة الدول التي لم يسمح لها المشاركة في وضع ميثاق الأمم المتحدة، فإن جميع دول وشعوب العالم ستؤيد وتدعم عولمة الأمم المتحدة
العدد 7 - الخميس 12 سبتمبر 2002م الموافق 05 رجب 1423هـ