في إيران - حيث الحال الصراعية تحتدم بين إخوة الأمس وأعداء اليوم - تستدعى الأسماء الكبيرة المفعمة بالإيحاء كآليةٍ من آليات الضغط وإسكات الخصوم الفكريين والسياسيين، وعادة ما يكون ذلك تعبيرا عن رفض الأسماء الأخرى وإشعارها بالضد وعدم المقبولية. من تلك الأسماء التي خضعت للتوظيف الصراعي يمكن الإشارة إلى كلّ من جلال آل أحمد «1969» وعلي شريعتي «1977».
الكاتب العراقي عبدالرزاق الجبران يتناول في هذا الكتاب فكر الدكتور علي شريعتي اعتمادا على منهجيةٍ تتأمل أن تكون تكاملية تستهدف استقصاء معالم مشروعه التجديدي. هذا الطموح المنهجي يتنكب في خطواته الأولى نظرا لتفكك بنية الكتاب واضطراب لغة النص. فالحماسة في إبانة معلمية شريعتي وتقدمه على مستوى تفجير الوعي الديني، يملي على الجبران إحضار العديد من الأسماء والشواهد والمشاريع والعلوم وبثها في المضان المختلفة من الكتاب من غير إبداء الحرص المطلوب على إيجاد الصيغة المنهجية والصياغة النصية الكفيلة باستجماع ذلك كله من غير نفور أو تنافر. فالجبران يثبت مثلا تحليلات المفكر الجزائري محمد أركون في إطار تفكيك الواقع الإسلامي، وهو أمر يصعب تركيبه مع الموقف الدعوي بفكر شريعتي وأمثاله ممن يقفون على مسافة بعيدة عن المفكرة المعرفية التي يحملها أركون. إن أركون يدعو إلى إدخال الرؤية التاريخية في قراءة التراث بما فيه الحدث القرآني وذلك على ضوء المنهجيات التطبيقية، وصولا إلى الجزم بخيار العلمانية وضرورته بالنسبة إلى الإسلام الذي لم يعد دينا بفقدانه البعد المتعالي وتحوله إلى أيديولوجيا صراعية. هذا الخطاب الأركوني لا ينسجم مع الكثير من معالم الفكر التجديدي لشريعتي فضلا عن بقية الرموز الإصلاحية المعروفة، وإقحامه في الكتاب يعكس المسكوت عنه في أفكار الجبران والتي تتوارى خجلا أو خوفا خلف أسماء المصلحين المسلمين ومقروءاتهم الاستنهاضية.
ما يحسب للكتاب أنه محاولة عربية طموحة ترصد أهم العناوين الفكرية والإصلاحية التي انطوى عليها مشروع شريعتي ومن خلال إمعان واسع في نصوص شريعتي المختلفة. لقد تمحور مشروع شريعتي حول عنوان الإصلاح الديني والعودة إلى الذات والرؤية الاجتماعية لحركة الفكر وإصلاح المؤسسة الدينية ونقد رجال الدين والتأصيل الأيديولوجي للإسلام ومفاهيمه والتأكيد على ولاية المفكر الملتزم والمنهجية الحية في تفسير النص الديني وخلال هذه العناوين استطاع شريعتي أن يطرح العديد من الأفكار والآراء المهمة التي شكلت يومها نقلة في الخطاب الديني وحثت الكثيرين على تشطيب أفكارهم ومناهجهم في فهم الدين وممارسته.
يتلخص مشروع شريعتي في سعيه لتجديد منهج فهم الإسلام على المستوى الاجتماعي والسياسي، وهو سعي يحتم البدء بمراجعة الذات وتنقية التراث والوقوف في صلب معركة المواجهة ضد الاستعمار والاستبداد والاستغفال الديني. وأبرز أسلحة هذه المواجهة تكمن في الاستظهار الجاد لمتطلبات العصر والفهم العميق لثقافة الغرب وتقديم الإسلام كأيديولوجيا تحررية ناهضة. ولأن شريعتي لم يخرج من تلال مكة أو حوزات قم والنجف وإنما جاء من الغرب حاملا شهادة السوربون، فكان من الطبيعي أن يجد المناكفة والرفض من قبل الحرفيين والمسحوقين في قناني الماضي. غير أن حواريي شريعتي سعوا لتأكيد أصالة فكره واستقامته باستدعاء أقوال رموز من القيادة الايرانية تشيد بشريعتي وبمقامه التجديدي «الامام الخميني وعلي الخامنئي مثلا». ويرسم شريعتي الجدلية التاريخية التي راهنت كل أزمات الإنسان وسياسات استغلاله، فكان الاستغفال مع الجهل، والاستعمار مع الخوف، والاستغلال مع النفعية. ولمواجهة ذلك كله أرسى شريعتي منهجية متميزة في قراءة القرآن وفلسفة الواقع، وتحلى بمعية ذلك بإيمان كفاحي عارم. ولاشك في أن تخصص شريعتي العالي في علم الاجتماع الديني وتاريخ الإسلام أسعفه على إرساء تلك المنهجية وتركيزها المعرفي لا سيما وأنه تتلمذ على يد قمم معروفة في مجال العلوم الإنسانية الغربية «آرون، ماسينيون، جاك بيرك مثلا». اليوم لا يحظى شريعتي باهتمام ملحوظ في إيران. وهناك في أوساط الحوزويين من يمقت شريعتي في فكرة إسلام بلا رجال دين، ورؤيته في موضوع التشيع الصفوي. كذلك فإن التأصيل الأيديولوجي للإسلام كان مدعاة لأن يخوض معارك متعددة على مستوى معرفة التراث والغرب، ليؤكد ضمن ذلك ولاية المفكر الملتزم وأهمية الحضور الثوري. يقول شريعتي: «قبلت أنا الإسلام. ليس إسلام الثقافة التي يصنعها العالم، وإنما إسلام الايديولوجيا الذي يربي المجاهدين. ليس في مدرسة العلماء، ولا في سنة العوام، وإنما في ربذة أبي ذر!»
العدد 7 - الخميس 12 سبتمبر 2002م الموافق 05 رجب 1423هـ