يبدأ روجيه جارودي دراسته حول الحداثة والاسلام بتعريف «الحداثة» من منظور ثقافة عالمية متعددة، وليس من وجهة نظر اوروبية خصوصية فحسب. ذلك ان الحداثة شكل من اشكال ثقافة من الثقافات، واسلوب حياة من الحيوات. اما الثقافة فتتحدد بمجمل علاقات الانسان، فردا او جماعة، بذاته، وبالطبيعة، وبالآخرين من بني نوعه، وبالمستقبل او بمعنى الحياة.
ومما له دلالته ان تدرج كتبنا المدرسية على تحديد بداية «الأزمنة الحديثة» بـ «النهضة» الغربية، التي ليست سوى ميلاد الرأسمالية المتزامن مع الاستعمار الذي بتقويضه اركان قرطبة العام 1236م ودكه غرناطة آخر مملكة اسلامية بأوروبا العام 1492م، واجتياحه اميركا، يكون قد قطع اوصال ثقافتين شامختين، هما الثقافة الاسلامية وثقافة الهنود الحمر.
وابتداء من هذه اللحظة، يغدو بالامكان ان نرجع في تحديد الحضارة الغربية علاقاتها بالطبيعة والآخر والله «او الغاية النهائية من الوجود» إلى ثلاث مسلمات، هي:
1- مسلّمة ديكارت، التي تجعل «الانسان سيدا ومالكا للطبيعة».
2- مسلّمة هوبز، التي تجعل «الانسان ذئبا بالنسبة إلى الانسان».
3- مسلّمة مارلو، التي تجعل «الانسان المنمي لقدراته العقلية الها يسود جميع العناصر ويهيمن عليها».
ولكن خمسة قرون من الهيمنة المطلقة لم تنته بهذه الثقافة إلى ما استهدفته مسلماتها تلك من نتائج، وانما إلى نقائضها من تلويث للطبيعة، واستنفاد لمواردها، وقدرة تقنية على إتلافها، وانغمار في مستنقعات السوق التي فاقمت العنف، وسعرت الحروب، وألهبت نيران المزاحمة التي لم تفتأ ان جزأت المجتمع الواحد إلى فئات متناهشة، وعمقت الهوة بين شمال مستقطب للثروات المتفاحشة، وجنوب يتضور جوعا ومسغبة.
اما زعم الاستغناء عن الله سبحانه في تدبير الكون، فقد انحدر بهذه الثقافة إلى كفرانها بالقيم المطلقة، واعتبارها الانسان والنزعة القومية مركزا للأشياء ومقياسا لها، فانقضت ركائز الحياة، وخيمت البلبلة، ومزقت حراب العنف احشاء المدن، وطمى بحر الاهوال، وتوازنات الرعب، واحتدم سعار الارادات والرغبات، على صعيد الافراد والمجتمعات.
ومما لا مراء فيه ان هذه «الحداثة» المزعومة التي انطلقت منذئذ ابواقها للترويج لها، انما هي دين، غير انه لا يجرأ على المجاهرة باسمه، اما ركنه الاوحد فهو «أحادية السوق»، تلك البدعة التي انفرد الغرب باختلاقها في مطلع «النهضة» والذي اهتبل الاتحاد السوفياتي، وتحطيم العراق، واستبداد الولايات المتحدة الاميركية بشئون العالم الثالث واوروبا، فرصة سانحة ليجاهر العالم باعتبار «ليبراليته الاقتصادية» نهاية التاريخ، على حد تعبير فوكوياما، احد منظري ايديولوجية وزارة الدفاع الاميركية.
ومما لا شك فيه انه ما من مسلمة من مسلمات هذه «الحداثة» المزعومة الا وهي مجرد اكذوبة من الاكاذيب، في مقدمتها:
اكذوبة الديمقراطية، والدفاع عن حقوق الانسان، وحماية الحريات.
والحق ان هذه الديمقراطية لم تكن في طور من اطوارها سوى وسيلة تعمية وتمويه تلجأ اليها اقلية من مالكي العبيد إلى مالكي الثروات.
اما ديمقراطية اثينا على عهد بركليس، التي يضرب بها المثل والتي تعتبر «ام الديمقراطيات»، فقد كانت عبارة عن حكومة يديرها عشرون الف مواطن من الاحرار، يستبدون برقاب مائة الف من الارقاء المحرومين من جميع الحقوق.
اجل، انها ديمقراطية، لا عيب فيها، غير انها مقصورة على الاسياد، وليس لغيرهم من العبيد فيها نصيب.
اما الاكذوبة الثانية فهي المتعلقة بالمساواة بين الناس في الحقوق.
وعلى الرغم من نص وثيقة «اعلان الاستقلال الاميركي» على هذا فقد ظل العبيد اكثر من قرن من الزمان يتجرعون علقم الاسترقاق، ولم يتورع حاملو هذا الشعار إلى اليوم عن ممارسة الوان من التمييز العنصري الذي ينحدر بالزنوج إلى دركات الاشياء.
اجل، انها ديمقراطية لا عيب فيها غير انها مقصورة على البيض، وليس لغيرهم من السود فيها نصيب. وبنبرة متغطرسة اكدت وثيقة «حقوق الانسان والمواطن» ابان الثورة الفرنسية ان الناس كلهم يولدون احرارا ومتساوين في الحقوق، ولكن دستور «اقتراع دافعي الضرائب» قضى بحرمان ثلاثة ارباع الفرنسيين من المشاركة في الانتخاب، بغير ذنب الا انهم فقراء، مسخهم فقرهم «مواطنين غير نافعين».
اجل، انها ديمقراطية لا عيب فيها، غير انها مقصورة على الاثرياء، وليس لغيرهم من الفقراء فيها نصيب.
وكلما جرى حديث حول حقوق الانسان تذكر المرء انه بمقتضى تأكيد «الاعلان العالمي لحقوق الانسان» «1948م»، حق المساواة بين الناس امام القانون، يصبح بإمكان اي انسان، سواء كان عاطلا عن العمل ام مالكا للمليارات، ان يصدر صحيفة أو ينشئ قناة تلفزيونية. وغني عن البيان ان قانونا هذا شأنه لا يحجم عن عقاب من تمتد يده إلى قطعة رغيف من دون تفرقة بين المترفين والمعوزين.
ان هذه المبادئ وغيرها من حق الاقتراع وغيره، مدونة في جميع دساتير وتشريعات البلاد الديمقراطية، ولكن شتان بين هذه النظريات والواقع الذي تمسك فيه بتلابيب الناس قوانين قمعية قاهرة، تلك التي تستبدل سندات البنوك ببطاقات الانتخاب.
ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تكلف المشاركة في حملة انتخابية خمسمائة مليون دولار كل من يطمح إلى مقعد نائب في البرلمان، او ممثل في هيئة من الهيئات، مثل ما هو الشأن في جميع هذه البلاد التي يسهّل فيها الثراء شراء الوسيلتين اللازمتين لكل راغب في السطو على السلطة، ونعني بهما:
- وسائل الاعلام، للتلاعب بالرأي العام وتكييفه.
- وصناعات الاسلحة، التي تضمن، في نهاية المطاف، اقناع غير المقتنعين.
ومن نوازل هذا التلاعب والتكييف الذي سجله القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، قصر وصف الليبراليين «بالمعنى السياسي للكلمة» على اولئك الذين يقاومون سلطان النبلاء.
اما اليوم، فالليبراليون «بالمعنى الاقتصادي للكلمة»، هم المدافعون عن سلطان الثراء. وهكذا الاقتصاد السياسي، او ذلك «العلم الكئيب» على حد تعبير كارليل «او بالأحرى العلم الذي ليس من العلم في شيء»، عبارة عن ايديولوجية مهمتها تبرير الحالة الراهنة، تلك التي تتلخص في مبادئ رائدها آدم سميث الذي يزعم انه: اذا سعى كل فرد لتحقيق مصلحته الخاصة، تحققت المصلحة العامة، لكأن يدا غير مرئية توجه نحو هذا الصالح المشترك محققة بذلك اتساق هاتين المصلحتين.
ومن وجهة النظر هذه، فإن اتجاهات الدولة كلها لا يأتي منها الا الضرر، ولما كانت السوق لا تأتمر الا بقوانينها، وتأبى الا ان تمسك بأعنة العلاقات الاجتماعية، فلم يبق للدولة اذن الا ان تتحول إلى مجرد دركي او حارس ليلي امين، مهمته المحافظة على هذه الاوضاع.
ان هذه المبادئ التي ما زالت إلى اليوم محل اعجاب واطراء كل من «ميلتون فريدمان» و «قون هايك» وتلامذتهما الاميركان والانجليز: ريغان وثاتشر، ووزراء فرنسا من احزاب اليمين واليسار، قد انتهت بعد قرنين من التجارب إلى اوخم العواقب، من ابرزها عدم تملك العامل وسائل الانتاج على الرغم من التقدم العملي، وتضخم الثراء والسلطة في قطب، وتكرس التبعية والبطالة والاقصاء في القطب الآخر.
ذلكم على الصعيد المحدود، اما على صعيد الكوكب، فقد افضت خمسة قرون من الاستعمار إلى تدمير الزراعات الغذائية الاساسية لصالح الزراعات والانتاجات الاحادية التي جعلت من المستعمرات ملحقات اقتصادية خاضعة لحاضرات «متروبول» القوى الكبرى، خضوعا تقنّع - بعد الاستقلالات الشكلية - بقناعات المساعدات التي «يتفضل» بها مستعمرو الامس، وإدارة صندوق النقد الدولي للديون.
ونجم عن هذه المظالم، بين 1960و 1989م، ارتفاع معدل الدخل العالمي من 70 إلى 83 لـ 20 لأثرى اثرياء العالم، وانخفاضه إلى اقل من 1,5 لافقر فقراء المعمورة. وهذا التقاطب لا يني يتفاقم ايضا في اغنى بلاد العالم، حيث يستحوذ 1 من الاميركان على 40 من الثروات القومية.
وكلما استشعر اسياد العالم مخاطر تمرد المضطهدين، اتخذوا من ديمقراطيتهم سبيلا يسلكونها بشكل طبيعي نحو الديكتاتورية.
فبفضل هذه الديمقراطية في اتم اشكالها، ادلت غالبية الالمان بأصواتها فبوأت هتلر مقاعد الزعامة، وراح ارباب البنوك وملوك الصناعة من الالمان والاميركان والانجليز والفرنسيين يمدونه بالاموال والذخائر تمكينا له من ان يقف حتى العام 1938 سدا منيعا في وجه الشيوعيين.
وهتلر ليس سوى حالة خاصة من ظاهرة شاملة، ففي اميركا اللاتينية فتحت الديمقراطية الاميركية ابواب معاهدها المختصة لتخريج العقداء والجنرالات وتكوين «سرايا الموت» تمكينا للديكتاتورية، ودفاعا ضاربا عن «الحرية الاقتصادية»، التي تعني اختراق الاموال الاميركية اقتصادياتهم اختراقا تفرضه الخصخصة والقمع الدموي للمعارضات الشعبية على مرأى ومسمع من اولئك الذين لا ينددون بانتهاك حقوق الانسان الا حين يتعلق الامر بتركيع الرافضين للسياسة الاميركية التي يقترف اثم فرضها صندوق النقد الدولي، وضروب من الحصار الذي يودي بحياة مئات الآلاف من اطفال العراق، ويلحق الاضرار البالغة بالدول البترولية المتمردة مثل ليبيا والسودان وايران و... ويضيق الخناق على لاهوتيي التحرر، الذين يتواصى بالتنديد بهم كل من مركز الاستخبارات الاميركية والفاتيكان.
إن «أحادية السوق» هذه التي عمّدت باسم «الحداثة»، تتجلى في تمزق النسيج الاجتماعي، الذي لا يلبث ان يختفي عن الانظار لتحل محله الداروينية الاجتماعية التي تعني، على حد تعبير «سبنسر»: «مضاعفة حرية الاغنى في افتراس الافقر والاضعف»، وتعني كذلك ان: «بين القوي والضعيف، الحرية هي التي تضطهد»
العدد 7 - الخميس 12 سبتمبر 2002م الموافق 05 رجب 1423هـ