عندما تذكر أسواق المواد الاستهلاكية في البحرين، والتي تضم بيع بعض اللحوم الحمراء والبيضاء والأسماك الطازجة، تقفز سوق جدحفص من بين هذه الأسواق الرئيسية في البلاد، على رغم فوضاها المستشرية في توزيعات البائعين فيها.
ثلاثة آلاف زائر يوميا للسوق، 39 «فرشة» بيع قادرون على حرمان السكان الراحة ويسهمون في تلوث المنطقة، في الوقت الذي يشكو فيه الباعة من تحامل مفتشي البلدية ضدهم.
تتعالى الشكاوى في سوق جدحفص، أصوات الشكوى، كل يشكو من الكل.
البائعون يتهمون البلدية بإهمال السوق، وبمصادرة «السمان» لأسباب واهية والتسبب في خسارتهم.
ويقولون: «لم نر عضو المجلس البلدي بعد انتخابه».
وعضو المجلس البلدي يعلق: «الناس تعتقد أننا نحقق المعجزات، ولابد من نقل السوق إلى منطقة أخرى».
سكان المنطقة يرون أن وجود السوق الشعبي يحرمهم الراحة، ويساهم في تلوث المنطقة، فسيارات الإسعاف لا تستطيع دخول المنطقة في حالات الطوارئ، والأطفال محرومون من الخروج إلى الشارع.
الزبائن تفترسهم الشمس الحارقة والرطوبة الخانقة والروائح الكريهة، والبلدية تقف وكأن الأمر لا يعنيها.
كيف تحل مشكلة سوق جدحفص؟، كيف تصبح سوقا شعبيا وليست سوطا يسلط على المتعاملين معها؟
وقف البائعون في السوق كل منهم يتلفت باحثا عن زبون، فمن هذا «الفدائي» الذي يمكن أن يزور السوق، وبدلا من أن يشتري احتياجاته يشتري «ضربة شمس» مجانية. السوق مكشوفة والخضراوات معرضة للذبول في هذا الجو الحارق، والاستياء يغزو الوجوه ولكن لا حول لهم ولا قوة.
بائع الخضراوات سعيد عبدالله أفسح مجالا لتنهيدة بقوله إن الباعة في هذه السوق «أوادم»، واصفا السوق الحالية بأنها «زريبة»، مجسدا بذلك معاناة البائعين في السوق، ويقول: «قدمنا الكثير من الشكاوى إلى البلدية من دون جدوى، السوق تفتقد النظافة، والإهمال يعشش في كل أرجائها، الشارع بحاجة إلى تمهيد، والسلع بحاجة إلى أجهزة تكييف حتى لا تفسد، والبلدية تهملنا وتهمل شكوانا. أين عضو المجلس البلدي حتى يحل مشكلة السوق؟ لم نره بعد انتخابه».
العبث في الميزان
بائعو الخضراوات في السوق لا يرون في زيارات مفتش البلدية سوى «العبث في الميزان» وتقليب صناديقهم فحصا لبعض السلع، وكل ما يسمعونه منه «هاتوا الميزان وشيلوا الميزان»، في الوقت الذي ينتظرون فيه مبادرات حقيقية من البلدية لحل مشاكلهم العالقة والتفكير في تحسين أوضاع السوق، إغلاقها وتكييفها وتقوية إنارتها.
وإذا كانت مشكلة بائعي الخضراوات أن سلعهم قد تذبل جراء تعرضها فترات طويلة للجو الحار، فالمشكلة تتضخم لدى القصابين، لأن اللحوم من أسرع السلع تعرضا للفساد، فهم بحاجة ماسة إلى وجود سوق مغلقة ومكيفة للحفاظ على بضاعتهم.
اللحوم تفسد
وإذا كانت الخضراوات قادرة على الصمود بعض الوقت، فإن اللحوم الحمراء قليلة الصبر قبل أن تفسد، فيقول القصاب سمير حسن: «نضع اللحوم في ثلاجات ونحاول أن نخرجها قطعة قطعة وفقا للإقبال على البيع، وهذا لا يحمي اللحوم تماما، ولكنها مجرد محاولة، فليس أمامنا سوى أن نحاول حتى نحافظ على أرزاقنا بهذه الطرق، ولكن وضع السوق على ما هي عليه يجعل الزبائن تفر منها، وتبحث عن أسواق مكيفة ونظيفة، وربما يكون وضع بائعي الأسماك أفضل منا، لأنهم يأتون السوق عصرا بعد أن تهدأ حرارة الشمس، ويضعون الأسماك في ثلج وهذا يحافظ على رزقهم».
أبو حسن يقول: «وضع السوق بحاجة إلى تنظيم، فالسوق تعاني من الإهمال الواضح، ومن أجل زيادة الزبائن لابد من توافر سبل الراحة. لماذا لا توجد سوق مغلقة مكيفة في جدحفص؟ أليست هذه المنطقة تجد إقبالا كبيرا من الزبائن؟ إذن لماذا لا يهتمون بهم؟».
كما يجد سعيد علي أن السوق بحاجة إلى مواقف سيارات، ولابد من إيجاد حل لمشكلة الحرارة التي تتسبب في فساد السلع، ويتساءل عن السبب في عدم اتخاذ أي خطوات ايجابية لتطوير السوق.
وسوق جدحفص ليست بائعين ومشترين وحسب، فهناك البيوت الحافة بالسوق والتي يعاني أهاليها معاناة من نوع آخر، فعلي خليل، الساكن في هذه المنطقة يقول إن الأهالي تقدموا بعدد من الشكاوى إلى البلدية بخصوص السوق، «نحن لا نعرف كيف تسمح البلدية بوجود سوق في منطقة سكنية؟ هل تعرفون ماذا يعني وجود روائح كريهة تساكننا ليل نهار؟ رائحة الأسماك لا تفارقنا».
عبدالنبي حسين: «نمنع أطفالنا من الخروج إلى الشارع الذي يعد المتنفس الوحيد لهم، لأننا نخشى عليهم من فوضى السوق (...) كل يوم نسمع عن حوادث اغتصاب فلا نطمئن على أطفالنا في الشارع!... هذا غير الإزعاج الذي يسبب لنا ضغطا نفسيا».
الأهالي يتفقون على أهمية هذه السوق بالنسبة للمستهلك، بل ويتفهمون سعي الباعة إلى الربح الحلال وسعي المستهلك إلى البضاعة الأفضل والأنسب سعرا، ولكن كل ذلك لا يمكن أن يتم على حساب راحتهم، ومتطلباتهم الأساسية.
نقل السوق إلى أي منطقة أخرى مخططة لهذه السوق بشكل صحيح، يوفر مواقف سيارات للزبائن، وأماكن للشحن والتفريغ، بعيدة إلى حد ما عن المنطقة السكنية ويوفر شروطا صحية للمواد الطازجة بشكل أساسي.
الهجوم المضاد
ولما أدخل الباعة مفتشي السوق في عمق القضية، رد مفتش النظافة بإدارة الأسواق المركزية خليل إبراهيم اتهام البلدية بإهمال السوق رغم أنها تتقاضى رسوما مقابل نظافة السوق وصيانته بقوله: «في السوق 29 فرشة خضار، وخمس فرشات لحوم، وخمس فرشات أسماك، هذا بالإضافة إلى الفرشات غير الرسمية، ونحن نتقاضى 15 دينارا شهريا رسوما من أصحاب الفرشات الرسمية مقابل النظافة وصيانة السوق، ونتقاضى 500 فلس في اليوم من أصحاب الفرشات غير الرسمية وهم الذين يبيعون في السوق في أوقات غير منتظمة... أعتقد أن هذه الرسوم ضئيلة إذا قورنت بالخدمات التي تقدمها البلدية من نظافة وصيانة للسوق».
ويلقي إبراهيم مسؤولية نظافة السوق على السماكة إذ يقول إنهم بعد البيع يقومون بإلقاء الماء الذي كانوا يحفظون فيه السمك في الشارع، كما يلقي الأطفال بقايا تنظيف السمك في الشارع أيضا، ولا نستطيع تسجيل مخالفة ضدهم لأنهم ليسوا من أصحاب الفرشات الأصلية، «إننا نقوم بصيانة السوق وكثيرا ما يقوم أطفال المنطقة بكسر صنابير المياه وغيرها من متطلبات السوق».
يقدر مفتش النظافة عدد المترددين على السوق بثلاثة آلاف زائر يوميا «هذا العدد الكبير لا يسمح لعامل النظافة بممارسة عمله، لذا فتنظيف البلدية يبدأ ليلا بعد انتهاء البيع، تغسل السوق كلها بالماء والمطهرات».
كما يشكو الباعة والزبائن من البلدية، فالبلدية بدورها تشكو منهم أيضا، إذ يقول إبراهيم إن القانون يسمح للبائعين باستغلال مسافة ثلاثة أمتار أمام فرشاتهم لعرض بضائعهم، ولكن معظمهم لا يلتزمون بهذه المسافة «هذا ما يجعلنا نشعرهم أولا، وإذا لم يتعاونوا نحرر لهم مخالفات تبدأ من عشرة دنانير وتصل إلى عشرين دينارا وفقا لتكرار المخالفة... هذه المخالفات تحدث يوميا».
لا للربح فقط
عضو المجلس البلدي للمنطقة مجيد السيد علي توجهت إليه الكثير من سهام النقد فكان رده: «الناس تعتقد أن عضو المجلس البلدي يحقق المعجزات»، ويضيف: «لا نستطيع إنكار أن سوق جدحفص من المشاكل الموجودة في المنطقة، فوصلتنا الكثير من الشكاوى بخصوص موقع السوق في منطقة سكنية، هذا الوضع تنتج عنه الكثير من المشكلات».
السيد علي يرى أن واحدة من أهم المشكلات عدم تمكن سيارات الإسعاف الدخول إلى المنطقة السكنية عن طريق السوق عند حدوث طارئ، كما أن السوق أصبحت مرتعا للقطط.
المشكلة - كما يراها عضو المجلس البلدي - تتركز في عدم إمكانية تطوير السوق في وضعها الحالي كونها محاطة بأملاك خاصة، بالإضافة إلى كون المنطقة المحيطة منطقة سكنية ووجود سوق شعبية فيها «يعد من أخطاء التخطيط».
ويتفق عضو المجلس البلدي مع الأهالي في أهمية نقل السوق إلى المنطقة المفتوحة المقابلة للسنابس، كونها بعيدة عن المنطقة السكنية، على أن تكون السوق الجديدة من الأسواق المغلقة والمكيفة التي يمكن أن تخدم سكان المنطقة دون أن تكون لها أية تأثيرات سلبية.
وفي حين يطالب الأهالي ممثلهم الذي وضعوا ثقتهم فيه في الانتخابات البلدية بإيجاد حل لهم، يوضح مجيد السيد علي أن صلاحيات عضو المجلس البلدي لا تعدو رفع التوصيات وتقديم الاقتراحات، ويبقى تنفيذ المشاريع محكوما بميزانية الدولة.
ويؤكد: «مشكلة سوق جدحفص موضوعة على رأس الأولويات»، ففي رأيه أن هناك من المشاريع التي يمكن للحكومة أن تقوم بها ليس بهدف الربح المباشر، وإنما التسهيل لأصحاب الأعمال والمهن لكي يعيشوا بشكل أفضل وفي ظروف أحسن، ويعقب: «على الدولة ألا تتعامل مع كل المشاريع من منطلق الربحية فقط، ولابد أن توضع مصلحة أهالي المنطقة في الاعتبار».
حتى إعداد هذا التقرير، كنا في انتظار رد البلدية لمعرفة ما إذا كان هناك تخطيط مستقبلي لهذه السوق لحل المشكلة أم لا... حتى الآن لم نتلق أي رد
العدد 7 - الخميس 12 سبتمبر 2002م الموافق 05 رجب 1423هـ