عبد الحسين شعبان أكاديمي ومفكّر عراقي من الجيل الثاني للمجدّدين العراقيين، يساري النشأة والتوجّه، وله أكثر من مئة مؤلف ودراسات متنوّعة في القانون والسياسة الدولية وقضايا الفكر والثقافة والأدب وغيرها، إضافة إلى عديد الترجمات، وحاصل على جوائز وأوسمة عديدة. وتمّ تكريمه مؤخراً في تونس من قبل المعهد العربي للديمقراطية، بالتعاون مع منتدى الجاحظ والجامعة الخضراء، وعدد من منظمات المجتمع المدني. اعتبر في حديثه لـ"المغرب" على هامش زيارته إلى تونس أن ما يحصل في العالم العربي من حروب واقتتال هو جزء من مخطط دولي من أجل تقسيم المنطقة إلى تكوينات متصارعة، مشيراً إلى أن خطر التقسيم يمكن أن يطال كل الدول في الشرق الأوسط، مؤكداً أن النخب العربية ليست بمستوى المسؤولية بحكم أزماتها الداخلية، والتراجع الذي حدث في وضعها الخاص. ودعا المفكر العراقي إلى نبذ العنف واستخدام الوسائل المدنية والحضارية للتعبير عن الاختلاف في الرأي .
ما يحصل هو جزء من مخطط دولي ولا أتردّد في أن أقول إن هناك مخططاً دولياً لأنه معلن، وأقصد بذلك "سايكس بيكو 2" الذي أصبح مطروحاً على طاولة البحث، فالعراق مرشّح للتفتيت ثم للانشطار، خصوصاً بعد صراعات قد تكون دامية، وما يجري الحدث عنه هو مجموعة من الأقاليم "ثلاثة أو أكثر" لكنها ستكون متصارعة ومتعادية.
أما سورية فهي مهيأة للتقسيم إلى 6 أقسام، دولتان سنيتان في دمشق وحلب، ودولة درزية، ربما سترتبط مع لبنان بالجبل، ودولة علوية في اللاذقية والساحل، ودولة كردية في عفرين والقامشلي. أما عن دير الزور فجزء منه قد يلتحق بمحافظة الأنبار لتأسيس دولة أخرى جديدة على حدود الأردن والعراق.
وهذا أمر مطروح أيضاً بالنسبة للبنان وليبيا واليمن، وربما يكون أبعد من ذلك، فدول الخليج هناك من يسعى لوضع مشرط التقسيم عليها، حيث يجري الحديث وراء الكواليس عن تقسيمات للسعودية ودول الخليج، وسيُجرى تغيير في بعض خرائطها، الأمر الذي يضع العالم العربي كله على شفا حفرة. وبالطبع، فإن الدور الإسرائيلي ليس بعيداً عن ذلك، خاصة في موضوع التقسيم الحاصل بين الضفة والقطاع.
كل ذلك جزء من مشروع كوني، كان قد طرحه سابقاً برنارد لويس منذ العام 1979 وكرره عام 1982 داعياً إلى تقسيم العالم العربي إلى 41 كيانا أو دويلة أو إقليماً أو فيدرالية. وهنا أستذكر مقولة كسنجر عام 1975 "لنقيم وراء كل بئر نفط إمارة"، وهذا يلخّص ما يحصل في المنطقة الآن، إذ أننا أمام مرحلة جديدة ملامحها واضحة. وللأسف فإن النخب العربية والمثقفين العرب والقوى التقدمية والقومية العربية ليست بمستوى المسؤولية بحكم أزماتها الداخلية والتراجع الذي حدث في وضعها الخاص، إضافة إلى ذلك فإن قسماً منها أصيب بالتحجر والتكلس، لدرجة أنه لم يعد يميز بين شعارات الأمس وأفق المستقبل . هذا الأمر بحاجة إلى نقد ذاتي ورد اعتبار للهوية الوطنية والقومية العربية بأفقها الاجتماعي. ولا بدّ من الجمع بين النضال الوطني والاجتماعي والنضال على المستوى الداخلي وضد التهديد والمشروع الخارجي الذي يستهدف المنطقة، خصوصاً المشروع الصهيوني الذي من مصلحته أن يرى العالم العربي مفتتاً ومنقسماً بل متشظياً .
الوضع في العراق هو استمرار للسنوات السابقة، خصوصاً ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 وإلى الآن، فالعديد من التحديات واجهت الوضع الجديد في العراق، لعلّ أهمها هو الطائفية التي أصبحت باعتراف الجميع عقبة أمام تطوّر الوضع السياسي والاستقرار. كما عانى العراق من الإرهاب الذي نما وانتشر بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، بل إنه في عملية تفريخ وازدياد وانتشار، وخصوصاً بعد احتلال داعش للموصل وأخذ ثلث مساحة العراق.
صحيح أنه تقهقر في الأنبار وصلاح الدين، لكن تأثيراته لا تزال مستمرة والموصل ما زالت بيده وهي ثاني أكبر محافظة عراقية. وترك احتلال داعش للعراق تأثيرات ثقافية واجتماعية ونفسية كبيرة. أولاً صار هناك نوع من عدم الثقة بالدولة العراقية وبالجيش العراقي الذي تراجع. وقد وجدت مشكلة جديدة تتعلق بالنزوح، فهناك أكثر من ثلاثة ملايين نازح من محافظات الأنبار وصلاح الدين وديالى وكركوك والموصل، أيضاً في سياق ضرب المجموعات الثقافية، وهنا على سبيل المثال، أذكر ما حصل من سبي لليزيديين وتنكيل للمسيحيين وإجبارهم على التـأسلم الداعشي أو دفع الجزية أو الرحيل.
هذا الأمر أحدث نوعاً من التفكّك والرعب والهجرة من الموصل إلى خارج العراق أو النزوح إلى إربيل وغيرها من المناطق. التحدّي الثالث والكبير الذي يواجهه العراق ومستمر حتى الآن هو تحدي الفساد المالي والإداري وهو الوجه الآخر للإرهاب، واحد أهم الشرايين التي تغذيه، خصوصاً مع ارتفاع الفساد السياسي والإداري والمالي، مما أدى إلى وجود ميليشيات خارج القانون، لأنها تغذت وحصلت على أموال سواء على المستوى الشخصي أو العام من الدولة وبأشكال مختلفة، وأصبحت هذه الميليشيات قوة كبيرة، حتى أن البعض صرح أنها أصبحت أقوى من الدولة العراقية. فالحشد الشعبي صحيح أنه جزء من القوات الرسمية العراقية، لكن له قيادات خاصة وله امتدادات حزبية وسياسية تؤثر على مهنية الجيش وحرفيته وعلى عقيدته العسكرية. وغالبية عناصر الحشد الشعبي هم من القوى السياسية الشيعية، وقد خلق هذا رد فعل من جماعات السنية السياسية، سواء من المشتركة بالحكم أو من خارجه. التحدّي الآخر المهم هو التحدي الإقليمي، فالأرض العراقية الآن مستباحة. هناك قوات عسكرية تركية تدخل وتخرج دون إذن الحكومة العراقية، لان السيادة العراقية معدومة. وهناك أذرع إيرانية داخل الأراضي العراقية تقصف أحياناً بعض القوى كما حصل مؤخراً في كردستان ولديها نفوذ سياسي بالتعاون مع القوى الشيعية السياسية.
وهناك أيضاً وجود أمريكي له نفوذ كبير حيث عاد مجدداً، وتتحدث التقارير عن وجود أكثر من أربعة آلاف جندي أمريكي في قواعد عسكرية بالقرب من الموصل وصلاح الدين والأنبار، وهذه كلها عودة إلى احتلال ثان على نحو جديد للعراق. ويجري تبرير ذلك في إطار اتفاق موقع بين العراق والولايات المتحدة منذ 2008، يجيز للولايات المتحدة التدخل العسكري والسياسي لحماية مصالحها، وهي بذلك تخضع الوضع العسكري والأمني العراقي لنفوذها تحت عناوين مختلفة منها الحفاظ على التجربة والتعاون لتطوير الحقول والقطاعات المختلفة، وغير ذلك.
هذا الوضع كله أدى إلى أن يدخل العراق في أزمة ليخرج منها إلى أزمة أخرى وصولاً إلى ما نحن عليه، إذ تمت إقالة عدد من الوزراء ومحاسبتهم عبر البرلمان كما حصل مع وزير المالية العراقي هوشيار زيباري مؤخراً، وخالد العبيدي وزير الدفاع قبل أسابيع من هذا التاريخ. وهناك توجّه لمحاسبة وزراء آخرين منهم إبراهيم الجعفري وعدد من الوزراء الآخرين من الشيعية السياسية، لكن كل ذلك يضعف المعركة مع داعش ويعصف بثقة المواطن بالحكومة والدولة العراقية، فهي الآن في أسوأ حالاتها، وفي خضم تنامي الأطماع التركية في العراق واستمرار النفوذ الإيراني والأمريكي، ترتفع فرضيات التقسيم .
لا بدّ من العودة إلى تعزيز دور الدولة العراقية، وهذا يتطلب وجود نخب مؤمنة بذلك من التيارات والاتجاهات، كما يتطلّب من هذه النخب أن تتعاون مع بعضها البعض لرد الاعتبار للمواطنة وجعلها فوق الانتماءات الضيقة، الطائفية والدينية والعشائرية والمناطقية وغيرها.
والحديث عن المواطنة يتطلب فسحة جديدة من الحريات، خصوصا حرية الاعتقاد والتعبير وحرية تشكيل الأحزاب والمنظمات المهنية الحقوقية والنقابية والاجتماعية، والحق في المشاركة وعدم التمييز، وهذا يتطلب المساواة الكاملة. لا يوجد حديث عن المواطنة دون مبدأ المساواة، وهذا يتطلب شيئا من العدالة الاجتماعية، إذ أن المواطنة ستكون ناقصة ومبتورة نتيجة الفقر، ولا بدّ من توفير الحد الأدنى من العيش الكريم. للأسف نجد أن العراق هو أغنى بلدان المنطقة بينما شعبه أفقر الشعوب حاليا والبطالة تصل إلى حدود 25 بالمئة ونسبة الأمية تزيد عن ذلك باعتراف هيئات دولية مستقلة.
هنا أهمية تفعيل مبدأ الشراكة والمشاركة، ولكي تكتمل المواطنة نحتاج إلى شراكة بغض النظر عن الانتماء الديني والسياسي والانحدار القومي أو الإثني أو اللغوي. نحتاج إلى بناء طويل الأمد، لكن المهم وقبل كل شيء ينبغي أن يكون هناك وعي بأهمية استعادة هيبة الدولة وفرض سلطانها وقوانينها على الجميع دون تمييز. وقد عبرت عن خشيتي من ان تندلع حرب شيعية - شيعية بين القوى الشيعية المسيطرة على السلطة والنفوذ والمال، وقد تندلع حرب سنية - سنية بين القوى الموجودة داخل العملية السياسية أو خارجها، وقد تندلع حرب كردية - كردية في اطار الصراع بين القوى الكردية المتنافسة على سلطات الاقليم والنفوذ والثروة .
هو جزء من هجمة ظلامية ضد المثقفين - بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع وجهات النظر - فالمثقف له رأي ولا بد من محاججة الرأي بالرأي ومقارعة الحجة بالحجة، لا أن يواجه الرأي بالسلاح والمسدسات والمفخخات. وهذا ما عمله "الإسلام الداعشي" أو "الإرهاب باسم الإسلام" الذي بدأته تنظيمات إسلاموية منذ عقود من الزمان ثم تطور ليصبح تنظيم القاعدة. ومن بعد أصبحت داعش وجبهة النصرة وأخواتهما هي المعبّر عن هذا الشكل من أشكال حل الصراع السياسي بالوسائل العنفية. أنا من دعاة اللاّعنف وأدعو إلى الحوار باستخدام جميع الوسائل المشروعة واللاّعنفية لإثبات صحة أو عدم صحة هذا الرأي بالوسائل المدنية الحضارية، وبما تسمح به القوانين والأنظمة المرعية، وعلينا أن نناضل سلمياً ولا عنفياً لوضع قوانين جديدة، تضمن الرأي والرأي الآخر والحق في الاختلاف وتحترم وجهات النظر والآراء على اختلاف أنواعها. إذن لا يمكن أن يحرز العالم العربي تقدماً بالرأي الواحد والذوق الواحد والزعيم الواحد، وهذه أصبحت كلها من إرث الماضي ومخلفاته.
ونحتاج إلى رؤية جديدة تقبل التنوع وتعترف به وتحترم وتقر بالحقوق المتساوية، وخصوصاً حقوق الإنسان بغض النظر عن كل الانتماءات السياسية والدينية والسياسية والعرقية وغيرها.