العدد 6 - الأربعاء 11 سبتمبر 2002م الموافق 04 رجب 1423هـ

الفلسطينيون والعرب والمسلمون ... هواجس 11 سبتمبر وما بعده

بشير موسى نافع comments [at] alwasatnews.com

.

لماذا يجب أن تكون ذكرى مرور عام على 11 سبتمبر/ أيلول حدثا مهما بالنسبة لفلسطيني، لعربي أو مسلم؟ لماذا وهناك عشرات «الذكريات» التي تمر بأجندتنا السنوية من دون أن يلتفت لها أحد في العالم؟ ماذا، مثلا، عن ذكرى دير ياسين، كفر قاسم، يونيو/ حزيران 7691، بحر البقر، قانا، أو حتى توزلة وسبرنتسيا؟
أدى إهمال مدير شركة كيماويات أميركية قبل أكثر من عقد من الزمان إلى انفجار المعمل ومقتل أكثر من ثلاثة آلاف مواطن هندي وتشويه وإصابة عشرة آلاف آخرين بالأمراض السرطانية. وحتى الآن ترفض الحكومة الأميركية تسليم المتهم الرئيس (رجل أعمال أميركي) المطلوب مثوله أمام محكمة هندية.

فهل ثمة «ذكرى» للضحايا الهنود تجد ولو اهتماماً ضئيلا من الرأي العام الأميركي والحكومة الأميركية؟


بيد أن حوادث سبتمبر 1002 كانت شيئا آخر، ليس فقط لأنها دخلت كل بيت وقرية ومدينة في العالم على موجات الاتصال الحديث، ولكن لأن دلالاتها وذيولها وآثارها مازالت بالغة الأهمية بالنسبة لوضع الولايات المتحدة في الساحة الدولية (وهي دولة العالم الكبرى)، وبالنسبة لصورتنا كعرب ومسلمين أمام الآخرين وأمام أنفسنا، وأيضا بالنسبة لعلاقاتنا بالولايات المتحدة والغرب الأطلسي ككل. دللت أحداث سبتمبر من جديد على قدرة الفئة الصغيرة من البشر على إيقاع متغيرات بارزة وعميقة في النظام الدولي، تماما كما استطاعت مجموعة قومية صربية في 4191 أن تجر باغتيالها ولي العهد النمسوي العالم بأسره إلى حرب دموية وطاحنة.


اليوم، بعد عام على سقوط مركز التجارة العالمي في نيويورك، أصبح واضحا لنا جميعا كيف استطاعت مجموعة صغيرة من المسلمين العرب أن تدفع الأمة جميعها إلى حرب لا يعرف نهايتها أحد، ولم يعد لها العدة أحد، ولا أرادها أحد. إن كان هدف قيادة «القاعدة» هو فعلا تأجيج حال الصراع بين الولايات المتحدة والعرب والمسلمين فقد نجحت في تحقيق هدفها هذا نجاحا ساحقا، نجحت لأنها جاءت على رأس عقد كامل من تدهور العلاقة بين دولة العالم العظمى والمليار مسلم، ونجحت لأن استراتيجية تأجيج الصراع صادفت صعود مجموعة لا تزيد حجما على تنظيم «القاعدة» من الأميركيين الصهاينة ودعاة الهيمنة إلى قلب مؤسسة الحكم في واشنطن: قاعدة أميركية خالصة.


ولادة الأسطورة


ولدت الولايات المتحدة على أيدي مجموعة من ملاك الأراضي والمثقفين المتأثرين برؤى تتجاذبها تناقضات التطهر البروتستانتي وأفكار عصر التنوير. وأراد هؤلاء من الجمهورية الوليدة، التي رفعت أساساتها على دماء السكان الهنود الأصليين وعرق ودماء ملايين «العبيد» الأفارقة، أن تكون تعبيرا عن «إرادة الرب» في إقامة «أورشليم» الجديدة على الأرض، أورشليم بمعنى القطيعة مع ميراث الحروب والانقسامات الأوروبية الدينية وبمعنى الاتصال مع الأنموذج الجمهوري الروماني الذي جسّد حكم أقلية من الحكماء الملهمين والحاملين لثقة المجموع والمدركين لخيرهم وصلاحهم. لم يكن «الآباء المؤسسون» للجمهورية الأميركية على دراية بالديمقراطية ولا كانوا دعاة مساواة إنسانية شاملة، وكانوا علمانيين في المعنى البراغماتي للعلمانية، علمانية تجنب توليد الحروب الأوروبية الداخلية والتناحر الأهلي. وعلى رغم أن مسلسل الدم والتوسع الأميركي على حساب السكان الأصليين وعلى حساب «العبيد» الأفارقة لم ينته بإقامة الجمهورية، فقد وضع «الآباء المؤسسون» منذ اللحظة الأولى لإعلان الاستقلال والدستور أسس الأسطورة الأميركية: إن أميركا هي مستودع الخير والرفاه، إن أميركا هي أرض الميعاد التوراتي، إن أميركا دائما على حق، إن أميركا لا تعتدي ولكنها لا تستسلم للاعتداء، وان أميركا حتى من دون أن ترسل جيوشها ومبشريها إلى العالم القديم هي حاملة رسالة. وطوال أكثر من قرنين وسلسلة من المجازر للسكان الأصليين في الغرب الأميركي، وعدد من الحروب التوسعية ضد الأسبان والمكسيكيين، وتدخل مباشر في حربين عالميتين، وسلسلة أخرى من حروب «الحرب الباردة»، أبرزها بالطبع المجزرة الفيتنامية الطويلة، ظلت الأسطورة الأميركية حية صامدة، تخلل الكتب المدرسية، الاحتفالات السنوية بعيد الشكر، أشرطة السينما، وثقافة التلفاز الشعبية، والبلاغة السياسية لمجتمع واشنطن من الرؤساء ورجال مجلسي الشيوخ والنواب، وآلاف العاملين في مراكز البحث والتوجيه وصناعة الرأي العام.
خلال العام الماضي، انهارت الأسطورة الأميركية إلى شظايا صغيرة. مازال خطاب الـ «نحن» الأميركي عاليا مسموعا ومازال الإحساس الأميركي الجمعي بالتميز والصواب رائجا، ولكن أميركا أصبحت أكثر وضوحا في توجهها الإمبراطوري ونزعتها للهيمنة والسيطرة. عشرات من السياسيين الأميركيين وقادة الرأي والكتاب والأكاديميين يتحدثون الآن بوضوح لا يخفى عن الضربة الاستباقية للعراق، ولأي نظام خصم آخر، عن أن أميركا فوق القانون والشرع الدوليين، عن أن الجيش الأميركي على استعداد لخوض عشرات الحروب حتى لو افتقد التأييد من أخلص الحلفاء. تدرك أميركا اليوم حجم وانتشار كراهية سياستها في أنحاء العالم ولا تكترث لذلك. ما صنعته حوادث سبتمبر أنها جعلت من أميركا امبراطورية رومانية جديدة بوعي كامل من ضميرها الجمعي.


أميركا ـ أوروبا


في خطابه الذي ألقاه أمام دائرته الانتخابية قبل عشرة أيام، وخصص في معظمه لإيضاح سياسة حكومته تجاه العراق، أعرب رئيس الوزراء البريطاني عن دعمه الكامل للتوجه الأميركي والاستعدادات الأميركية لغزو العراق. وفي زلة لسان فرويدية كما يبدو، تساءل طوني بلير، في تبريره للتحالف مع واشنطن، عما إذا كان الهجوم على نيويورك وواشنطن قبل عام يمثل تهديدا للولايات المتحدة فحسب. أجاب بلير عن السؤال البلاغي بالنفي، وأكد أن ذلك الهجوم كان يمكن أن يوجه للندن أو باريس أو روما أو برلين. لم يشر بلير إلى القاهرة أو جدة أو دمشق، على رغم أنه يدرك بالتأكيد أن عداء «القاعدة» للأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة لا يقل عنه للولايات المتحدة، وانها هاجمت بالفعل أهدافا في السعودية قبل 11 سبتمبر وفي باكستان وتونس بعده. ولكن المهم في لا وعي بلير ليس جدة أو الرياض أو القاهرة بل نيويورك ولندن و باريس وروما. ما يراه بلير في هذا الصراع المتأجج، والذي يوشك على الاتساع والإتيان على الأخضر واليابس، هو التهديد الموجه للغرب، وان على الغرب كفكرة جمعية، الغرب بمعناه الكلاسيكي الذي أخذ في التبلور في ذروة عصر الاستعمار، أن يدافع عن وجوده وموقعه في العالم. وهذا هو جوهر الدعوات المتصاعدة في أوساط بلير لإعادة الاعتبار للنظام الإمبريالي ولحقّ القوى الغربية في أن تفرض أنظمة انتدابية متعددة في أنحاء العالم لإجبار الدول والمجتمعات العصية على الطاعة والامتثال.


لا ينبغي لأحد أن يشك لحظة في أن ما نشهده الآن هو حرب ضد الإسلام كدين وثقافة، وضد شعوبه عموما والعرب منهم خصوصا، حرب يختلط فيها الجهل بالإسلام وتاريخه وشعوبه بحسابات السيطرة والدوافع الأيديولوجية البحتة لحماية الدولة العبرية. ولكن من الضروري ألا يغيب أن دفع العلاقة بين الإسلام والعرب من جهة والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة من جهة أخرى إلى حال الصراع والحرب لم يبدأ بحوادث سبتمبر، بل بدأ فعلا منذ لحظة سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك الكتلة الشيوعية.


ما أسهمت به حوادث العام الماضي أنها اختصرت الطريق، قدمت دليلا دمويا وملموسا، مسوغا مباشرا ومكثفا ولا يقبل الجدل لدى بسطاء الرأي العام، على ضرورة المواجهة.


انطلقت منذ مطلع التسعينات حركة واسعة النطاق لأكاديميين أميركيين (أمثال برنارد لويس ومارتن كريمر) وصحافيين (أمثال دانيال بايبس وفريدمان وكراوثهمر) وسياسيين ومسئولي حكومة سابقين (أمثال ريتشارد بيرل وبول وولفويتز وريتشارد غافني) وكلهم يهود، تدعمهم آلة الإعلام الرسمي الإسرائيلي ورجال الدولة العبرية الرئيسيون من شمعون بيريز إلى بنيامين نتنياهو، وأتيحت لهم مجموعة من وسائل الإعلام الأميركية المؤثرة ومراكز البحث والتأثير السياسي، خصوصا تلك المرتبطة بجناح المحافظين الجدد في الإدارة الأميركية. كان هدف الحركة هو إعادة توكيد العلاقة العفوية بين الدولة العبرية والولايات المتحدة، العلاقة التي بدا أنها أخذت في الاهتزاز جراء انهيار الاتحاد السوفياتي والسياسة التي اتبعها بوش الأب أثناء حرب الخليج الثانية وأثناء التمهيد لمؤتمر مدريد. وكان هدف هذه الحركة أيضا تقديم عناصر الاختلاف بين الغرب والإسلام، سواء الثقافية منها أو السياسية، التاريخية أو المعاصرة، في اعتبارها قطيعة وتهديدا ومصدر خطر على وضع القوى الغربية ومستقبلها. كان الهدف باختصار هو تمهيد الطريق لإشعال نيران حرب طويلة المدى، متعددة الوجوه، بين العرب والمسلمين والولايات المتحدة، حرب تكون الدولة العبرية فيها من جديد الحليف المخلص للولايات المتحدة ورأس حربة المواجهة الأسطورية.


لتجلي هذا المشروع كان لابد من شروط مواتية، وقد أخذت هذه الشروط في التوافر تدريجيا خلال التسعينات بفضل توجهات «القاعدة» وحلفائها من ناحية، ثم وصول رئيس قصير النظر، ضيق الأفق والرؤية في قراءة شئون العالم والإسلام، مثل جورج بوش، إلى البيت الأبيض، رئيس وقعت إدارته بالكامل تقريبا تحت تأثير معسكر المحافظين وحلفائهم. الهجمات المتكررة على أهداف أميركية وغربية، والسياسة الأميركية البشعة تجاه القضية الفلسطينية، تضع سيناريو الصراع الطويل الآن موضع التنفيذ. طوني بلير بالطبع هو لاعب صغير في هذا التحول التراجيدي الهائل.


الإمبراطورية الجديدة


شادت بريطانيا الاستعمارية إمبراطورية فاقت حتى الإمبراطورية الرومانية اتساعاً وثروة. ولا شك في أن انهيار الإمبراطورية البريطانية هو أحد أعقد حلقات التاريخ الحديث على الإطلاق، وهي حلقة صنعتها قوى متعددة وبالغة التعقيد. انهارت الإمبراطورية البريطانية لأن قادتها فقدوا القدرة والاستعداد الضروريين لإدارة الإمبراطورية والحفاظ عليها، ولأن التحديات التي أخذت بريطانيا في مواجهتها داخل أوروبا كانت باهظة التكاليف وأدت في النهاية إلى إفلاس مركز الإمبراطورية، ولأن الشعوب التي حكمتها بريطانيا وسيطرت على مقدراتها لم تعد تقبل السيطرة الأجنبية فانفجرت داخلها حركات التحرر الوطني الواحدة بعد الأخرى، من إيرلندا والعراق إلى الهند وكينيا ومصر واليمن. ولكن أحدا، حتى بين المؤرخين البريطانيين المحافظين وأوساط مؤسسة الخارجية البريطانية، لا ينكر الدور الرئيسي الذي لعبه المشرق العربي في تحويل بريطانيا من قوة من الصف الأول إلى قوة ملحقة بالولايات المتحدة. أدت معارضة بريطانيا لمشروع الوحدة العربية وخيانتها لحلفائها العرب في فلسطين إلى خروجها من المنطقة كقوة استعمارية وإلى انهيار الأنظمة الحليفة لها الواحد تلو الآخر. وفيما عدا دول الخليج والأردن، تحول المشرق العربي منذ نهاية الستينات (وحتى قبل ذلك) إلى مناطق نفوذ أميركية وسوفياتية، ليس لبريطانيا فيه من دور يذكر.


اليوم، تعود الولايات المتحدة، وللمرة الأولى في تاريخ علاقتها بالمشرق العربي، لتلعب دوراً إمبريالياً وإمبراطورياً مباشراً. ولكن الولايات المتحدة لا تملك في مطلع القرن الحادي والعشرين شروط السيطرة التي توافرت للإمبراطورية البريطانية في مطلع القرن السابق، وإن كان لأفغانستان من درس فإنها أعادت توكيد حدود القوة الأميركية. وتواجه الولايات المتحدة مشاعر سخط عميقة وواسعة الانتشار في منطقة تبدو قدرتها على تحمل السيطرة الأجنبية أقصر بكثير مما كانت عليه في حقبة الصعود البريطاني الإمبريالي. فأي مصير يخبئه المشرق العربي للإمبراطورية الأميركية الجديدة؟


٭ كاتب فلسطيني وأستاذ في التاريخ الحديث

العدد 6 - الأربعاء 11 سبتمبر 2002م الموافق 04 رجب 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً