وصف المثقف التونسي المقيم في باريس عفيف الأخضر العمليات الاستشهادية التي يقوم بها الفلسطينيون بكونها «مرفوضة أخلاقيا ودينيا وكارثيا من الناحية السياسية»، واعتبرها نتيجة عاملين هما «الثقافة المغلقة والانتحارية السائدة في مجتمعاتنا، والغياب الفاجع للفكر النقدي». وتساءل: «من أين انحدرت إلينا هذه الثقافة العنيفة بمعجمها وممارساتها التي تقطر دما؟ «وحمّل ماضينا الممتد في حاضرنا، وانتصار الأتباع على الابداع والرواية على الدراية في تراثنا الأدبي والفقهي وجهاد الآخر على جهاد نوازع النفس العدوانية، وبطش السلطات الغاشمة قديما وحديثا، وجروحنا النرجسية سواء منها المنحدرة من هزائمنا أمام الغرب وإسرائيل أو الآتية من تربية أسرية قاسية مسئولية ذلك».
هذا جزء من مقال تميز بالعنف الشديد بدأ من عنوان «المثقفون والعمليات الانتحارية هذيان جماعي». وهي وجهة نظر لكاتب له تجربته السياسية والفكرية التي لا نريد أن نقلل من أهميتها، لكن هجومه القاسي لم يقف عند انتقاد شكل من أشكال المقاومة، ولم يقتصر على الجوانب التقنية مثل التوقيت أو الحيز المكاني أو هوية المستهدفين، وإنما اتجه نحو تقويض مبدأ المقاومة المشروعة استنادا إلى اعتبارات فكرية وسياسية. وهو ما استوجب منا التوقف نظرا إلى اعتقادنا بحصول خلط في مستويات التحليل، بين مجالات مختلفة. فتقويض كامل البنيان بحجة إصلاح ركن من أركانه منهج خاطئ وخطير في الآن نفسه.
أ- هكذا بدأت الحملة من إسرائيل وصولا إلى عرفات.
في البداية أقضت العمليات الاستشهادية مضاجع الإسرائيليين الذين وجدوا فيها أسلوبا خطيرا من المقاومة، حيث لا يمكنهم التكهن مسبقا بتوقيتها أو مكانها، أو مواجهتها بالوسائل الأمنية التقليدية. وعلى رغم أن الأميركيين والأوروبيين قد أدانوا هذه العمليات فإنهم اعتبروها آنذاك وليدة اليأس الذي بلغه بعض الشبان الفلسطينيين. ثم جاءت حوادث 11 سبتمبر/ أيلول التي استثمرها الإسرائيليون بشكل جيد حيث ربطوا بينها وبين المقاومة الفلسطينية متخذين من العمليات الاستشهادية النموذج الأفضل لإقناع حلفائهم الأميركيين بوحدة الخطر وبالتالي وحدة المصير والمعركة. وهو ما استوعبه المنطق الأميركي وتبناه الرئيس بوش وإدارته. ومن ثم انتقلت العدوى إلى الأوروبيين الذين على رغم تميز مواقف معظم دولهم عن الموقف الأميركي فإنهم خضعوا في النهاية ودرجوا هذه العمليات ضمن مفهوم الارهاب. وبذلك تشكل نوع من الموقف الدولي ضد المقاومة الفلسطينية.
أما عربيا فقد حاولت الجهات الرسمية ان تتمسك بضرورة التمييز بين الارهاب وحق الشعوب المحتلة في المقاومة المشروعة، لكن شيئا فشيئا بدأ الكثير من الحكومات العربية تشكك في الجدوى السياسية لتلك العمليات، وتشرع في ممارسة الضغوط على عرفات والسلطة الفلسطينية من أجل إيقافها. هذه الضغوط الدولية والعربية أعطت أكلها في النهاية، حين انتهى الأمر بعرفات إلى وصف قسم من العمليات الاستشهادية بكونها أعمالا ارهابية، وهي تلك التي يتم تنفيذها داخل ما يسمى بالخط الأخضر ويذهب ضحيتها مدنيون إسرائيليون. غير ان ذلك لم يقنع الطرفين الإسرائيلي والأميركي بجدية السلطة الفلسطينية، وطالباها بإدانة وإيقاف كل أشكال المقاومة التي توصف بالعنف، والتي تبدأ بالعمليات الاستشهادية لتصل إلى تنظيم المسيرات الشعبية وإلقاء الحجارة.
عند هذا الحد أصبح واضحا ان المطلوب حاليا وبشكل ملح ليس فقط التخلي عن شكل معين من أشكال المقاومة، وإنما إلغاء الحق في المقاومة، والاستسلام لأسوأ السيناريوهات الإسرائيلية، وفرض قيادات سياسية وأمنية موالية لتل أبيب وواشنطن.
ولا يقف هذا الشرط الأخير عند الحد الفلسطيني وإنما يمتد ليشمل الصعيدين العربي والإسلامي.
ب- المطلوب القضاء على المقاومة.
في هذا السياق الدولي يتنزل الجدل الدائر منذ فترة عن مدى شرعية العمليات الاستشهادية التي لا علاقة لها من هذه الزاوية بالتراث وثقافة العنف الموروثة أو المكتسبة. أي ان المحدد في هذا السياق هو تقدير المصلحة السياسية التي يمكن ان تترتب على هذه الوسيلة الدفاعية. فالذين يقررون وضع حد لحياتهم على رغم كونهم في ربيع العمر ليسوا مجانين، أو من هواة ممارسة (البلطجة) والعدوانية، وإنما هم نتاج وضع من دون أفق وظروف مأزقية ومأسوية، إضافة إلى كونهم يواجهون عدوا شرسا لا يفهم إلا لغة القوة ولا يحسن الا القتل والتدمير. لهذا عندما سئل الشاعر محمود درويش عنهم قال، وهو الذي لا يشاطرهم أشياء كثيرة، انه لا يسمح لنفسه ان يقدح في من قرر ان يفدي وطنه بحياته.
لا يعني ذلك مصادرة الحق في التقييم السياسي لهذا النمط من المقاومة، وخصوصا انه لا ينطلق في الغالب من مبادرات فردية، وإنما تتولى التخطيط له حركات سياسية لها أهدافها وتكتيكاتها ومصالحها، وهي مطالبة بحماية أرواح أبناء الشعب الفلسطيني، وبحسن إرشادهم وابتكار أفضل الاستراتيجيات الكفيلة بتحقيق انتصارات فعلية ودائمة وليست مؤقتة أو وهمية. كما ان هذه التنظيمات مطالبة بأن تأخذ في الاعتبار الجدل الدائر فلسطينيا وعربيا ودوليا عن جدوى هذه العمليات، وألا تترك انطباعا بأن ما تقوم به هو مجرد ردود فعل ثأرية، وليست جزءا من خطة استراتيجية متكاملة ذات آفاق سياسية واضحة وعملية، وقادرة على دفع القضية إلى الأمام.
فسياسة رد الفعل لا تخدم في النهاية سوى الطرف الأقوى القادر على تجيير خسائره لصالحه. كما ان هذه التنظيمات لابد ان تضع في حسابها ان ما يتحقق من مكاسب ميدانية لابد من استثماره سياسيا في الوقت المناسب وبالأسلوب المناسب وفق أهداف مرحلية مضبوطة، وإلا تحولت دماء الشهداء هدرا.
ج- للمثقف دورمهم ولكن.
ان للمثقف دورا أساسيا - وخصوصا في الأزمات والمنعرجات الخطيرة التي تواجه الأمة، وتهدد فلسطين بالضياع. ليس مطلوبا من المثقف ان يكون مجاملا أو مدّاحا، فليس ذلك دوره، ولو فعل ذلك لخان مجتمعه وانجرف عن مهمته الأصلية التي تفرض عليه رصد الأخطاء وكشف الثغرات والتقيد بالنصح واستشراف المستقبل والاجابة عن الأسئلة المعلقة والمصيرية. لهذا لا يلام المثقف على معاكسته للتيار العام والرأي السائد، وعليه ان يصمد ولا يتراجع في التعبير عما يعتقده حقا حتى لو أجمعت الأمة على مخالفته. في المقابل المثقف مطالب أخلاقيا بأن يكون واعيا بطبيعة المرحلة التاريخية وبمخططات الأعداء وأهدافهم البعيدة والقريبة، وان يميز بين الثوابت والمتغيرات، التكتيك والاستراتيجية. وان يتجنب أسلوب التشكيك والهجاء والاتهامات المجانية التي تنحرف بالخلاف ولا ترتقي بالحوار لتجعل منه مصدر قوة وإثراء. كما ان المثقف مطالب بألا يكتفي بالهدم على حساب بذل الجهد العلمي من أجل البناء. وألا يخلط «الحابل بالنابل» وذلك بالتمييز بين مجالات الجدل الفكري ومستويات النقاش السياسي وخصوصا عند مناقشة إشكالات تتعلق باستراتيجيات المقاومة. فالمثقف مهما علا شأنه يبقى محكوما بميثاق شرف ضمني بينه وبين الأمة، هذا إذا كان يريد تأسيس علاقة جدلية بينه وبين قرائه ومواطنيه تقوم على الثقة والاستماع والحوار الديمقراطي. أما إذا كان من الذين قرروا التمرد على كل شيء والتحاور مع أنفسهم فذلك شأن آخر.
ان «ثقافة العنف» لا علاقة لها بمفهوم المقاومة والجهاد. العنف نزعة عدوانية وحال عجز عن تقبل الآخر والتعامل معه بأسلوب حضاري، في حين ان المقاومة أو الجهاد حال دفاعية شرعية تفرضها ظروف استثنائية وتحكمها شروط أخلاقية واجرائية دقيقة. المقاومة ضرورة وواجب من أجل حماية حقوق الشعوب وأرضها وعرضها وسيادتها، لهذا أقرتها الأديان والشرائع والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان والشعوب.
نعم هناك من المفسرين ومنظّري بعض الفرق الإسلامية أو كتّاب حركات الإسلام السياسي اعتبروا الجهاد عملية هجومية وليس دفاعية، ومنهم من أشاعها حتى للأفراد أو الجماعات على رغم وجود الدولة، فهؤلاء ارتكبوا بذلك خطأ عمليا واستراتيجيا ألحق ضررا كثيرا بالإسلام والأمة، ووقعوا بدورهم في الخلط بين الجهاد والارهاب. من هنا تأتي أهمية النقاشات الدائرة منذ سنوات داخل الدوائر الإسلامية سواء منها العلمية أو الحركية عن مخاطر العنف واستعمال السلاح ضد المسلمين والحكومات الجائرة أو الأجانب وأتباع الديانات الأخرى. وهي نقاشات تتطور إيجابيا في اتجاه تخليص العمل الإسلامي والنشاط السياسي عموما من مثل هذه المطبات الخطيرة.
لكن هناك خط أحمر بين الاعتقاد بضرورة استئصال ظاهرة العنف الاجتماعي أو السياسي الذي يندرج ضمن مظاهر التأزم الداخلي والأقرب إلى منطق الحرب الأهلية البغيضة التي كان الفقهاء يصفونها بالفتنة، وبين مقاومة المحتل، وخصوصا إذا كان هذا المحتل رافضا أي شكل من أشكال التعايش والسلم.
كاتب وصحافي تونسي
العدد 6 - الأربعاء 11 سبتمبر 2002م الموافق 04 رجب 1423هـ