المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ليست مجرد أول امرأة مُنتخبة تتولى هذا المنصب في تاريخ ألمانيا فحسب، بل وتظهر جدارة في توليها منقطعة النظير على مدى عشر سنوات ونيف، حتى أن مجلة «فوربس» الإقتصادية الأميركية جعلتها في مركز الصدارة، كأقوى امرأة في العالم، على مدى ست مرات متتالية في الفترة من 2006 إلى 2011. وقبل سنتين فازت أيضاً بوسام التميز لأكثر الشخصيات تأثيراً في العالم من قائمة الملوك والرؤساء وكبار السياسيين، خلال التصويت الذي أجراه المجلس الدولي لحقوق الإنسان والتحكيم والدراسات السياسية والاستراتيجية.
لكن على رغم ما حظيت به من شعبية ومكانة دولية كرئيسة للسلطة التنفيذية في بلادها، فإن كل ذلك لم يعطها الامتياز أو الحق لكسر المبادئ المستقرة المتعارف عليها في الدول الديمقراطية العريقة في فصل السلطات، واحترام هيبة ومكانة السلطة الأهم ألا هي «السلطة التشريعية» التي تمثل الشعب. فقبل أيام قليلة تناقلت وسائط التواصل الاجتماعي فيديو يظهر فيه حقيقة الموقف بشأن ما تردد بأن رئيس السلطة التشريعية في ألمانيا (رئيس البرلمان) قد طرد رئيسة السلطة التنفيذية (المستشارة انجيلا ميركل) من البرلمان، فقد اتضح بأن المستشارة كانت جالسة في الصفوف الأمامية تتجاذب أطراف الحديث همساً مع أحد أعضاء حزبها «حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي» بينما كانت إحدى عضوات البرلمان تلقي كلمة في البرلمان، ولم يكن بطبيعة الحال لائقاً بأن يسمح رئيس البرلمان لأحد أعضائه بالتحدث بكلمة، فيما يظهر مشهد لأي من الحاضرين عدم الاكتراث بالإنصات لكلمتها، فطلب من ميركل، بكل لطف وذوق، بأنها تستطيع أن تعود للصفوف الخلفية، أو تغادر القاعة لتواصل حديثها مع زميلها في حزبها إذا كان حديثهما مهماً لا تستطيع أن تؤجله، فما كان منها إلا أن انصاعت في الحال لطلب رئيس السلطة التشريعية ووقفت وانحنت برأسها بكل احترام معتذرة إليه وهي تنسحب مع زميلها إلى خارج القاعة.
هذا الموقف الذي لم تتوقف عنده طويلاً الصحافة ووسائل الإعلام الغربية كموقف اعتيادي في أي دولة ديمقراطية، فإنه لم يفت اعتيادياً في معظم دولنا العربية والتي لما تترسخ فيها تقاليد ديمقراطية في الفصل الحقيقي للسلطات واحترام مكانة وهيبة السلطة التشريعية، إذ تناقلته وسائل الإعلام العربية مبهورةً بشدة منه، بل وجرى تداول الفيديو الخاص به على أوسع نطاق عدة أيام، ولعل أكثر من عبّر إعلامياً عن هذا الانبهار الشديد الإعلامي المصري المعروف إبراهيم عيسى، إذ عقّب على ذلك الموقف في برنامجه التلفزيوني «القاهرة والناس» بأن وصف موقف رئيس البرلمان الألماني بالشجاعة، ومشيداً بتصفيق أعضاء النواب له، ومقارناً هذا الموقف ذلك ببرلمان بلاده ونوّابه في حال حضور قيادات أو مسئولين كبار من السلطة التنفيذية للبرلمان، والذي لا يكاد يختلف عن سائر البرلمانات العربية: «شوفوا المشهد ده، وشوف الارتعاش الذي بنراه من بعض المسئولين تجاه قياداتنا، وشوفوا النفاق والتزلف والتذلل أمام القيادات الكبيرة، والأدب اللي هو مفرط إلى حد النفاق، والنفاق اللي ممعن إلى حد الترخص...».
لكن ما فات الإعلامي المصري عيسى وكل الإعلاميين والعرب الذين انبهروا بموقف رئيس البرلمان الألماني، ووصفوه شجاعاً، بأنه كما أسلفنا موقف اعتيادي ولا يدعو للانبهار الكبير، بل يستطيع نظراؤه رؤساء البرلمانات العربية بكل بساطة الإقدام عليه تجاه أي مسئول كبير في السلطة التنفيذية، وذلك في حال لم تقتصر معظم دساتير دولنا العربية على الفصل بين السلطات على الورق فحسب، بل وفي الممارسة الفعلية، وفي القوانين الديمقراطية العادلة المنظمة للعملية الانتخابية والكافلة بنزاهة تطبيقها ومخرجاتها، بحيث يصل للبرلمان من هم يمثلون الشعب حقاً وحقيقاً، وعندها فقط ستدرك قيادات السلطة التنفيذية وكبار المسئولين فيها إن مثلما للسلطة التنفيذية هيبتها وسلطانها، فإن لسلطة الشعب (السلطة التشريعية) هيبتها وسلطانها، ولن تجرؤ بالتالي على تجاوز تلكما الهيبة والسلطان.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5134 - الإثنين 26 سبتمبر 2016م الموافق 24 ذي الحجة 1437هـ
شعوب تدعي أنها قد تحررت من عبوديتها القديمة،ولكنها في الواقع لا زالت مغرمة وتستظل بكل أرث قيوده وأمراضه وتقاليده القاتلة ،مهما تحرك وتطور الزمن وقصرت المسافات وتشابكت القارات والإقاليم والدول والمدن ..عالم كتبت على شعوبه أن تشقى وتعشق ظلام الماضي السحيق ...س.دلمن