العدد 5132 - السبت 24 سبتمبر 2016م الموافق 22 ذي الحجة 1437هـ

«البحث عن الغريب»... استحضار لتحفة كامو الوجودية

أليس كابلان
أليس كابلان

تستحضر أستاذة اللغة الفرنسية ورئيسة قسم اللغة الفرنسية في جامعة ييل، الناقدة أليس كابلان، في كتابها «البحث عن الغريب»، في تقصِّيها رواية «الغريب» للفيلسوف الوجودي والروائي والكاتب المسرحي الفرنسي - الجزائري، ألبير كامو، تحفته الوجودية. كما قالت عن الرواية نفسها في موضع آخر، ضمن شهادات قُدِّمت في العام 2013، بأنها «بلغت القمَّة». يقتبس جون ويليامز، في استعراضه الكتاب في صحيفة «نيويورك تايمز»، يوم الخميس (15 سبتمبر/ أيلول 2016)، رؤية كابلان للجانب الدلالي والذي «يتحدَّد في الفصل الذي يتناول الفترة التي عمل فيها كامو كمراسل لقضايا المحاكم، لدى صحيفة مناهضة للاستعمار في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي. منحته التجربة تلك مقعداً في الصف الأمامي من مسرح التوترات والأحداث الدرامية التي مُنيَ بها مجتمع قائم على عدم المساواة. كما منحته التجربة تلك أدوات محدَّدة هيأته لكتابة (الغريب)، ويتبدَّى ذلك في المشهد الذي يلوِّح فيه القاضي بالصليب أمام ميرسو، مصراً على أنه يؤمن بالصفح المسيحي».

ثمة اصطفاء لما جاء في تقرير ويليامز، تم تعزيزه بإضاءات حول عدد من أعمال كامو، وإصدارات كابلان، آثرنا ترك الإضاءات تلك ضمن الحواشي في نهاية هذه الكتابة.

التضرُّع الوجودي

في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، كان الناشر الأميركي ألفريد أ. نوف يتابع حقوق طبع النسخة الإنجليزية من رواية «الطاعون» (1) للفيلسوف الوجودي والكاتب المسرحي والروائي الفرنسي - الجزائري ألبير كامو (2)، بوجهة نظرها الاستعارية الرصينة والواضحة في مواقفها من النازية. مع شيء من التردد، حصل نوف على حقوق نشر رواية كامو الأولى «الغريب» (3)، التي وصفها أحد القرَّاء في الشركة الناشرة بأنها «لطيفة، وغير مُمتعة في القراءة» وبدا مثل ذلك التعليق وكأنه يقول: «غير مهمَّة جداً وليست جديرة بأن تُذكر».

انطلقت الرواية لتصبح، بتوافق الآراء، واحدة من أهم الكتب والأكثر حضوراً في ذاكرة الأعمال الروائية في القرن العشرين. رئيسة قسم اللغة الفرنسية والأستاذة في جامعة ييل الأميركية، أليس كابلان (4) تذكر في مقدِّمتها لكتاب «البحث عن (الغريب)» - بذلك العنوان المتداخل الذي يشير إلى رواية كامو - بأن الرواية بمثابة بحث تاريخي جديد عن التأثير الأكثر عمقاً الذي خلَّفه كامو؛ حيث تشير فيه إلى أن النقاد رأوا الرواية من وجهة نظر مختلفة باعتبارها «رمزاً استعمارياً، كما أنه كتاب تضرُّع وجودي، ويحوي لائحة اتهام تُمليها الأخلاق التقليدية، وأحياناً هو يقترب من دراسة الاغتراب، أو «إعادة كتابة همنغواي لكافكا» هذا «الشغَب الإشكالي» في صياغة كابلان «هو واحد من علامات هذا العمل التحفة».

تحدِّد كابلان رؤيتها تلك بالقول: «القصة تحديداً في كيف أن كامو أبدع هذا الكتاب الفريد». مضيفة «إنها القصة الأكثر امتداداً وانكشافاً ضد واحد من الموضوعات الغامضة الأكثر دراماتيكية في التاريخ».

في منتصف عشرينيات القرن الماضي، عندما التقينا كامو في العام 1939، كان طموحاً بشكل كبير، وقتها لم يتم نشر الكتاب؛ حيث كان الكاتب يعيش في مسقط رأسه الجزائر، وكان يعمل على رواية أحْجم عنها حملت عنوان «الموت السعيد» (5)، ومسرحية حول الإمبراطور كاليجولا، ومقال فلسفي صدر في كتاب حمل عنوان «أسطورة سيزيف» (6) في العام 1942، ليتم بعدها إضافة عمل ضمن هذا المزيج من الأفكار الخلاَّقة في رواية «الغريب».

المراسل الصحافي

كامو، على رغم، أنه شخص معروف، كان شخصاً لصيقاً بالعالم. لم يكن كاتباً منعزلاً في غرفته، ويمكننا أن نكتشف أن قصته تتشابك بعمق مع المناخ السياسي المعقَّد الذي ساد حكم فرنسا - الجزائر، يوم أن كانت فرنسا مُحتلة من قبل النازيين.

كابلان، كاتبة شهيرة أصدرت العديد من الكتب، بما في ذلك مذكرات «دروس الفرنسية» و «الحلم بالطريقة الفرنسية، السنوات الباريسية لجاكلين كندي وسوزان سانتاغ وانجيلا ديفز» (7)، ومع هذا المشروع الجديد، تشحذ كابلان مهاراتها تلك جنباً إلى جنب مع إمكاناتها كمؤرخة وناقدة أدبية وكاتبة سيرة.

نكتشف على نطاق واسع علاقات كامو مع عائلته ومع زملائه من الكتَّاب. نكتشف أنشطته باعتباره معادياً للفاشية. كما نكتشف ما قاد إلى كل تلك التفاصيل في رواية «الغريب»، بدءاً من إيقاع الجُمل إلى تصور مشهد لا يُنسى فيه، الذي تبدأ به الرواية من حيث نهايتها بموت والدة ميرسو، وقتل الأخير لـ «العربي» على الشاطئ؛ حيث يحكم عليه بالإعدام، والمفارقة المضحكة أنه لم يُحكم عليه بالإعدام لأنه قتل «العربي»، بل بسبب أنه لم يبكِ ولم يتأثر بموت أمه، في إحالة إلى مخالفته لمعتقدات العصر.

الاغتراب الوجودي

«الغريب» كانت أول عمل روائي للتعبير بشكل كامل عن الاغتراب الوجودي. ويمكن أن يطلق على الرواية التي كتبها وهو في سن التاسعة والعشرين بأنها «التطبيق الروائي للفكر الوجودي»، بحسب عديد من النقاد، على رغم أن كامو نفسه لم يحب مفهوم «الوجودية» ولكنه «أحبَّ الحذاء المناسب وبشكل مريح»، كما بيَّن ذات كتابة؛ إذ (ما فائدة العالم الواسع وأنت ترتدي حذاء ضيقاً؟!)، أو ما هو قريب من هذا المعنى.

هذه الرواية قليلة الصفحات، كانت تتحرَّك من وحي صوت فيه الكثير من بهرجة المقارنات. (المقارنات التي لا تعدَم نموذجها العميق والخاص).

تكتب كابلان في نهاية إصدارها، عن كامل داود، ضمن السياق والفضاء الذي يبدو متفرِّعاً عن الفضاء الأصل في رواية «الغريب». داود الذي وضع العرب في الصدارة مع صدور روايته «ميرسو: تحقيق مضاد».

داود نفسه وفي لقاء مع موقع قناة «الجزيرة»، أشار إلى أنه أخذ فكرة الرواية عن كامو ولكن بمنظور معاكس «باعتمادي على وجهة نظر الطرف الآخر، وهو (هارون) شقيق (العربي) المقتول»، موضحاً أن روايته لم تكن رداً على كامو، وإن لم ينفِ ذلك الرد بشكل كلِّي؛ إذ يعود في المقابلة نفسها ليقرَّ بأن روايته «في جزئها الأول رد على ميرسو وعلى كامو»، مُستدركاً بالقول «لكنها أيضا تحليل للواقع الآن، وامتداد لفكر ألبير كامو، لكن من وجهة نظري. ما حاولت أن أقوم به هو أخذ تساؤلات كامو التي تخصني أنا الآن في الجزائر وفي الوقت الحالي، تساؤلات حول الموت والجنس والحرية والمعتقدات وحول القتل والعنف، أنا لم أكتب حول ألبير كامو لكن انطلاقاً منه».


إضاءات على الهوامش

(1): صدرت رواية ألبير كامو «الطاعون في العام 1947، وبفضلها حاز على جائزة نوبل. تقدِّم الرواية قصة عاملين في المجال الطبي يتعاونون فيما بينهم في زمن فارق وحرج باجتياح الطاعون مدينة وهران الجزائرية. ثمة وصف دقيق وآسر لوقع الوباء على الطبقة الشعبية. ثمة أسئلة كبرى وعميقة تتعلق بالقَدَر، وتتناول طبقات اجتماعية وشخصيات متنوعة بدءاً من الطبيب وصولاً إلى المطلوب لدى العدالة.

في الجانب الآخر من قراءة الرواية، بتكثيفها للمفاهيم والمعاني الرمزية والوجودية، ثمة معالجة لحقيقة موقف الفرنسيين من الغزو الألماني. في إسقاط ذكي وعميق يلوذ بكناية الجرذان التي اجتاحت المدينة. ثمة قراءات أخرى لا تترك المقارنة أو المقاربة بالنظر إلى أن كافكا، وخصوصاً في عمله «المحاكمة»، كان المؤسس الفعلي للوجودية قبل أن تظهر في صورتها والإشكالات التي تولَّدت عنها، ولم ينأ كامو في «الطاعون» عن سلفه.

(2): ألبير كامو، فيلسوف وجودي، وكاتب مسرحي وروائي فرنسي - جزائري. ولد في 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 1913، بقرية الذرعان بمقاطعة قسنطينة بالجزائر، من أب فرنسي قُتل بعد مولده بعام واحد في إحدى معارك الحرب العالمية الأولى، ومن أم إسبانية مصابة بالصمم. تخرج من قسم الفلسفة بكلية الآداب، وانخرط في المقاومة الفرنسية أثناء الاحتلال الألماني.

وتشير دائرة المعارف «ويكيبيديا»، إلى أن فلسفته تقوم على كتابين هما: «أسطورة سيزيف»، وأصدره العام 1942، و «المتمرد»، والذي صدر في العام 1951، ضمن فكرتين رئيسيتين هما: العبثية والتمرد.

من أشهر أقواله «إن مهمتي ليست أن أغيِّر العالم فأنا لم أعطَ من الفضائل ما يسمح لي ببلوغ هذه الغاية، ولكنني أحاول أن أدافع عن بعض القيم التي بدونها تصبح الحياة غير جديرة بأن نحياها ويصبح الإنسان غير جدير بالاحترام». من بين أعماله: «المنفى والمملكة»، العام 1957، «أعراس»، «السقوط»، «الصيف»، «سوء تفاهم»، «الرجل المتمرد»، «رسائل إلى صديق ألماني»، وغيرها من الأعمال. توفي 4 يناير/ كانون الأول 1960.

(3): «الغريب» صدرت العام 1942م، ولم تبرح المذهب العبثي في الأدب.

(4): أليس كابلان أستاذة اللغة الفرنسية ورئيسة قسم اللغة الفرنسية في جامعة ييل. قبل انضمامها إلى جامعة ييل، كانت أستاذة الدراسات الرومانسية وأستاذة الأدب والتاريخ في جامعة ديوك، والمدير المؤسس لمركز الدراسات الفرنسية والفرنكوفونية في الجامعة نفسها.

تشمل اهتماماتها البحثية، السيرة الذاتية، الترجمة في النظرية والتطبيق، الأدب والقانون، الأدب الفرنسي في القرن العشرين، والدراسات الثقافية الفرنسية، والثقافة الفرنسية بعد الحرب.

(5): «الموت السعيد» وتبحث بعناد عن السعادة، ولو أدَّى ذلك إلى ارتكاب جريمة ما من أجل الوصول إليها، وتتناول تجربة شاب يُعاني مصاعب كثيرة على صعيد الفقر والمرض والحب والرحلات، ويعيش حالات صراع نفسية.

(6): «أسطورة سيزيف»، مقالة فلسفية هي بمثابة مدخل لفلسفة العبث تتكون من 120 صفحة تم نشرها العام 1942م، وتتناول البحث غير المُجدي للإنسان عن معنى. في الكتاب يتساءل كامو: هل تحقيق العبثية يستوجب الانتحار؟ يجيب: «لا، إنها تستوجب التمرد».

المقالة تلك، تنتمي إلى دورة العبث، جنباً إلى جنب «الغريب»، «كاليغولا» (مسرحية، 1944) و «سوء التفاهم» (مسرحية، 1944).

(7): «الحلم بالطريقة الفرنسية، السنوات الباريسية لجاكلين كندي وسوزان سانتاغ وانجيلا ديفز»، فيه مقاربة لشعور الفرنسيين بأنهم مدينون للولايات المتحدة الأميركية، بعد أن تمت عملية الإنزال البحري الأميركي على شواطئ النورماندي، ومن ثم تحرير فرنسا من الاحتلال النازي، تبع ذلك الاعتراف، العلاقات التي تم تعميقها، وخصوصاً الثقافية منها، بتدفق الطلاب الأميركيين على باريس. في الكتاب وقوف على تلك السنوات الباريسية لثلاث فتيات أمضين سنوات في باريس، ليصبحن فيما بعد من مشاهير عصرهن، إحداهن أصبحت فيما بعد السيدة الأولى في بلادها: جاكلين كنيدي. من بين أسماء الكتاب، الروائية والكاتبة سوزان سونتاغ، والشخصية الشهيرة في عالم الدفاع عن الحقوق المدنية في أميركا خلال سنوات السبعينيات من القرن الماضي، أنجيلا ديفز.

ألبير كامو
ألبير كامو
غلاف «الطاعون»-غلاف «الحلم بالطريقة الفرنسية... السنوات الباريسية...» -غلاف «الغريب»-غلاف «البحث عن (الغريب)»
غلاف «الطاعون»-غلاف «الحلم بالطريقة الفرنسية... السنوات الباريسية...» -غلاف «الغريب»-غلاف «البحث عن (الغريب)»




التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً