من الأشياء التي ربطناها بـ «السلبية» هي الفضول. صرنا ننعتُ هذا بالفضولي، وننهى أبناءها بأن يبتعدوا عن ذلك السلوك والتدخل فيما لا يعنيهم. الأكيد أن النوايا في ذلك حسَنَة، وهم يرومون التربية الجيدة لأبنائهم، لكن ما لا يجب أن نُكرِّسه في دواخلنا وتفكيرنا هو أن نعتقد بأن «كل» الفضول هو «عيبٌ سلوكي منكر» يجب الابتعاد عنه.
فـ «الفضول» في المعرفة على سبيل المثال لا علاقة له بالفضول في المجالس والتلصُّص على أخبار الناس وإشباع الغريزة بما قيل ويقال عن أشياء تافهة. لذلك، كانت لفظة (فضولي) عند الغربيين تعني أساساً حب الاستطلاع والبحث في مجال العلوم والدراسات أكثر من أي شيء آخر.
لذلك، علينا أن نفتح الباب أمام «فضولنا العلمي» ولا ننهى عنه؛ كونه عملاً لا يشوبه الذم، بل هو ممدوح ومُشجَّع عليه لأنه يقود حتماً إلى اكتشاف ما هو غامض ويفتح أمام العقل مسيرة العلم الحقيقي.
وعندما نرجع إلى أساس التطورات التي حصلت في الغرب، وأتت لنا بكل هذه المنجزات المحسوسة والتي نستفيد منها في حياتنا وراحتنا سنرى أنها جاءت بفعل الفضول العلمي، الذي يدفع صاحبه نحو غابة من الأبواب المجهولة، التي ما إن يفتح واحداً منها حتى تتكشّف له أشياء لا يكن قد توصل إليها.
قبل ست سنوات كَتَبَ العالِم المصري الراحل توّاً عن عالمنا أحمد زويل مقالاً حول الفضول العلمي. وقد عدَّد أمثلة كثيرة لإنجازات تحققت بفعل البحث القائم على الفضول ومواجهة اليقينيات. تحدث عن تجربة العالِم الراحل ريتشارد فاينمان في بصريات الكَم، وعن تجربة تشارلي تاونز في الليزر وكيف أنه كان يقول بأن بداياته في ذلك كانت مدفوعة من الفضول العلمي وحسب.
وتجربة زويل في علم الفيمتوثانية، التي نال بسببها جائزة نوبل للعلوم واكتشافه التصوير الميكروسكوبي الإلكتروني رباعي الأبعاد؛ لمشاهدة المواد في البعديْن الزماني، والمكاني كانت هي أيضاً مدفوعة من فضوله ورغبته في تجاوز السائد وتحطيم جُدُر حتى تحقق ما صار يُعتقد أنه فتح.
كان زويل يشير إلى أن ميكانيكا الكَمّ، وفك رموز الشفرة الوراثية قد تطوَّرت بفعل ذلك الفضول. وأن التصوير بالرنين المغناطيسي ونمو أبحاث الترانزستور كانا قد تطورا بفعل الفضول العلمي أيضاً، سواء في طرح أفكار جديدة داخل معضلة دوران الإلكترون للأول، أو في طبيعة الإلكترونات في أشباه الموصِّلات بالنسبة للثاني. وهو أمر ينسحب على غيره من التطورات العلمية.
قبل سنتين قام شخص عليم في جامعة كاليفورنيا ديفيس، يدعى ماتياس جروبر بإجراء اختبار لإثبات أهمية الفضول العلمي وكيف أنه يعزِّز من قدرة الناس على التعلُّم وحفظ المعلومات الجديدة، اعتماداً على مراكز المكافأة والذاكرة الرئيسة في الدماغ. كما جاء في نص الخبر.
طلب جروبر من البعض تقييم مستوى فضوله اعتماداً على بعض الأسئلة. وقد تبيّن له أن الأسئلة التي أثارت فضول المشاركين، قد تذكروا إجابتها بدرجة أفضل من التي كان اهتمامهم بها أقل. كما «أظهرت مسوح الدماغ نشاطاً زائداً خلال فترة التعلم في المناطق التي تستجيب للمكافأة وتنظِّم تشكيل الذاكرة، وكشفت المسوح عن زيادة الترابط بين المنطقتين». لنتأمل جيداً في ذلك.
هل تتذكرون رئيس جامعة شيكاغو روبرت زيمر الذي تحدثنا عنه قبل أيام؟! لقد كان يشير إلى هذا الأمر لطلابه ويؤكد عليهم. كان يدعوهم إلى «طرح الأسئلة الصعبة والنظر في وجهات النظر العديدة المتحدية»، لإنتاج معتقدات وتجارب مختلفة كي تتحقق المحاكاة الصلبة للتعليم والأهم ما هو أبعد من تقدير حرية التعبير إلى الالتزام بضمان هذا الحق للآخرين أيضاً حسب قوله.
قال لي أحد الأخوة إنه وحين كانت ابنته تدرس في إحدى الجامعات الأميركية أخطرتهم إدارة الجامعة بأن رئيسها يودّ أن يخاطب الطلاب مع أهلهم في يوم التهيأة. وعندما ذهبوا بالفعل حضر رئيس الجامعة وقال تسع كلمات لا أكثر: نحن لسنا بصدد تعليم أبنائكم بل لإعادة بناء شخصياتهم. هذا هو الهدف الأسمى للتعليم الجامعي وأجوائه الحقيقية.
قبل أزيد من عام كتبت رنا دجاني مقالاً حول تجربتها الخاصة في الجامعة مع طلابها حينما بدأت تدريسهم نظرية النشوء والتطور لـ داروين، والتي عدّها كثيرون بأنها نظرية إلحاد. وبالمناسبة فإن دجاني حاصلة على درجة الدكتوراه في البيولوجيا الجزيئية من جامعة آيوا بالولايات المتحدة الأميركية، وأغلب أبحاثها حول علاقة الجينات بمرض السكري والسرطان في الإثنيات بالأردن.
تقول الدكتورة رنا بأن قبول الطالب لنظرية تطور الإنسان من عدمه، ليس دالة على درجاته في الامتحان، فالهدف هو مساعدة الطالب كي يفكر باستقلالية (ومن دوافع نحو أشياء بعيدة عن اليقينيات السابقة لديهم). هي لا تريد من طلابها قبول النظرية كي ينجحوا بل تريدهم أن يعرضوا حجّتهم التي من خلالها نالوا قناعة القبول أو الرفض للنظرية. وإذا فعلتُ خلاف ذلك؛ فإني عملياً أنكِرُ التطور، وأفرض آرائي على الآخرين.
ليكن شعارنا لطلابنا هو: كونوا فضوليين في العلم كي تستطيعوا أن تمنحونا آفاقاً جديدة في مسيرة العلم اللامنتهية، وحلولاً ناجعة لتعقيدات هذا الكون الذي نحن فيه.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5131 - الجمعة 23 سبتمبر 2016م الموافق 21 ذي الحجة 1437هـ
الفضول أنقذ اشخاصا حتى من الهلاك وهم في اوضاع خطرة