حين أعلن أن قمّة دول العشرين ستنعقد في مدينة هانغتشو، وهي رابع المدن الكبرى في الصين، استعدتُ قراءاتي التاريخية عن طريق الحرير أيام العصر الذهبي للعرب والمسلمين، والمدينة ذاتها التي كانت مركز «بيت الحرير»، وكانت في القرنين الثاني والثالث عشر (م) عاصمة سلالة الصونغ التي حكمت الصين آنذاك، وكان الرحّالة العربي ابن بطوطة قد زار الصين في العام 1348 (م).
هانغتشو المدينة التاريخية، هي اليوم المدينة الأولى في الصين في العلوم المعلوماتية، إضافة إلى مكانتها الاقتصادية والسياحية، وهي تضاهي أكبر المدن الاقتصادية والعلمية في الولايات المتحدة والعالم. من يتصوّر أن المدن الصينية في الخمسينات والستينات التي كانت تعاني من الفقر والجوع، أنها سترتدي من جديد أثواب الحرير وتتجول فيها السيارات الفارهة، لدرجة المبالغة أحياناً، بعد أن كانت الدراجات الهوائية ترفاً.
استعدت بهذه المناسبة، مؤتمراً للحوار العربي – الصيني تم تنظيمه في بكين في العام 2010، وزرنا فيه المدينة الصينية العملاقة شنغهاي، بدعوة من المعهد الصيني للدراسات الدولية، وذلك عبر منتدى الفكر العربي، وشارك فيه ممثلون عن الأردن واليمن ومصر والإمارات والعراق والكويت وفلسطين، بصفتهم الأكاديمية والفكرية والثقافية بما فيهم مسئولون سابقون، ومن الجانب الصيني، باحثون ومختصون بالشئون العربية وإعلاميون بارزون، إضافة إلى عدد من الدبلوماسيين الذين عملوا في البلدان العربية.
انصبّت بعض المناقشات العربية، على الرغبة في أن تلعب الصين دوراً أكبر في العلاقات الدولية لتعديل ميزان القوى العالمي، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، والقضية الفلسطينية تحديداً، وذلك بعد التفرّد الأميركي في العلاقات الدولية ومحاولات الهيمنة على مقدرات الأمم المتحدة، وكان جواب الصينيين (فرادى وجماعات) أنهم ليسوا الاتحاد السوفياتي السابق، ولا يريدون أن يلعبوا مثل هذا الدور، وزادوا على ذلك أنهم دولة نامية، لاتزال تعاني من مشكلات غير قليلة، وهناك نحو 150 مليون صيني بحدود خط الفقر، لكنهم لن يتوانوا عن لعب دور اقتصادي، من خلال علاقات اقتصادية وتجارية، مع بلدان العالم كافة.
ويبدو أن الصين تاريخياً لم ترغب في العمل خارج بلادها حتى عندما كانت تمثل قطباً في الصراع الأيديولوجي بينها وبين السوفييت في أواخر الخمسينات والستينات، وقد يعود ذلك لأسباب تاريخية تتعلق بالعزلة التي فرضتها على نفسها وفُرضت عليها، سواء قبل الثورة الشيوعية العام 1949 وبالتحديد في القرن التاسع عشر، أو ما بعدها بسبب طبيعة نظامها السياسي، حيث ظل الغرب يعترف بالصين الوطنية، وحتى الأمم المتحدة لم تعد مقعد الصين كعضو دائم العضوية في مجلس الأمن الدولي إلاّ في العام 1971 بالقرار رقم 2758.
لكن التمدّد الاقتصادي يجلب معه، سواء أراد أو لم يرد، تمدداً جغرافياً وعسكرياً وسياسياً، وتلك قاعدة لا يمكن مخالفتها، هكذا وبسرعة خاطفة أصبح للصين وجود في البحر المتوسط، حيث توجد لديها قاعدة قرب طرطوس الميناء السوري، وهناك كلام عن احتمال بناء قاعدة في جيبوتي بالقرب من القاعدتين الأميركية والفرنسية، وكانت قد بنت قاعدة عسكرية على جزيرة اصطناعية في جنوب بحر الصين بعيداً عن حدودها الإقليمية، ولديها علاقات واسعة من السودان ومع إفريقيا بشكل عام، الأمر الذي يعني أن الوفرة المادية والرخاء الاقتصادي، جلبا معهما نفوذاً عسكرياً وسياسياً، لم يعد حكراً على الولايات المتحدة وحدها والقوى الكبرى، بل إنها بشراء سندات للخزينة الأميركية أصبحت يدها طويلة للغاية، الأمر الذي يثير قلق واشنطن.
الصين وهي تدخل الحلبة الدولية بثقة كبيرة، أعادت تحالفها مع روسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا والهند، وشكّلت دول البريكس التي اتبعت سياسة مغايرة للسياسة الأميركية، وكانت دول البريكس قد عقدت اجتماعاً قبيل انعقاد قمة هانغتشو لتنسيق مواقفها، بحيث تبدو أكثر تماسكاً في اجتماع العشرين، كما تنشط الصين في بلورة المشروع الأوراسي الذي يقوم على ربط أوروبا بآسيا، وخلق أسواق لمنافسة الأسواق الأميركية، وحسبما هو مترشح حتى الآن، فإنه خلال العشرين عاماً القادمة أن هذه السوق ستفوق الأسواق الأميركية بأضعاف، وقد تشمل 64 دولة، ويستفيد منها 4 مليارات و400 مليون إنسان.
القراءة الأولى لهذه المشاريع، واحتمالات التحاق دول أخرى في جنوب شرقي آسيا، حيث يزداد النفوذ الصيني، إضافة إلى الحضور الوازن في إفريقيا، تشير إلى احتمال تراجع الولايات المتحدة ونفوذها الجيوسياسي الاقتصادي، وهو الأمر الذي نجد صداه في إطار المنافسة الحامية بين الجمهوريين (دونالد ترامب) والديمقراطيين (هيلاري كلينتون) في حملاتهما الانتخابية، حيث ترتفع الأصوات، لإعادة جبروت الولايات المتحدة أو تأكيده.
لم تعد إذاً اليد الطولى لواشنطن فوق الجميع، والسبب بالطبع، هو النفوذ العالمي للصين والدور الروسي الجديد، إضافة إلى ارتفاع نبرة العداء لواشنطن في العالم الثالث الذي عانى من سياساتها ونهب ثرواتها، وقد كان الحضور السعودي والتركي لافتاً في القمة العشرينية ولقي اهتماماً صينياً متميزاً، ولعلّ من أسباب انحسار الدور الأميركي هو احتلالها أفغانستان العام 2001 وللعراق العام 2003، وما آلت إليه سياساتها التدميرية للشعبين، وانعكاساتها على دول الإقليم عموماً، ناهيك عن استمرار سياساتها الممالئة «لإسرائيل» المتنكّرة لحقوق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير المصير، وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وفي قمة دول العشرين كانت الصين ومعها روسيا المبادرة إلى إطلاق دعوات لإصلاح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، الأمر الذي يخص البلدان النامية بشكل خاص واقتصادياتها وأسواقها، وإنْ كانت هناك مصاعب جدية تعترض ذلك، بسبب التسيّد الأميركي، لكن ذلك يمثل بداية وعي جديد وإصرار من جانب دول البريكس ومعها الكثير من البلدان النامية المتضررة من السياسة الاقتصادية الأميركية لإصلاح المؤسسات الاقتصادية الدولية.
الصين التي ظلّت تصرّ على أنها دولة نامية تقدّمت الميدان بهدوء وتسلّلت إلى مقاليد القيادة، وهو الأمر الذي بدا واضحاً منذ قمة العشرين في العام 2014، فهي ليست دولة كبرى فحسب، بل قوة عظمى، سواء أرادت أو لم ترد، لأنها مركز بيت الحرير في التجارة والصناعة والزراعة، إضافة إلى المعلوماتية الجديدة على المستوى العالمي، وهو ما أظهرته قمة هانغتشو، عبر طائفة من المتغيّرات الدولية والإقليمية، تراكمت بالتدرج منذ انتهاجها سياسة جديدة بعد وفاة الرئيس ماوتسي تونغ العام 1976، وتقنين العنف الذي انفلت على نحو لا مثيل له في الثورة الثقافية طيلة عقد من الزمان.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"العدد 5131 - الجمعة 23 سبتمبر 2016م الموافق 21 ذي الحجة 1437هـ