من صفات الوضع العربي الناشئ منذ 2011، أن النخب العربية التي تتحكم بالسلطة السياسية بأبعادها التنفيذية والقضائية والبرلمانية تعيش ارتياباً من النخب التي كانت شريكة معها في الحكم حتى الأمس القريب. ربما يعزز هذا الوضع تخوفها من مقدرة بعض هذه النخب التي خرجت من السلطة على التفاعل مع الشارع في ظل حالة عدم الاستقرار والحاجة للتغير. فالنخب العربية المتحكمة أغلقت الباب أمام النخب التي تشبهها من سياسيين ورؤساء ووزراء سابقين ونواب وسفراء وشخصيات عامة مؤثرة ووزراء خارجية سابقين وغيرهم ممن غادروا مواقعهم المختلفة في السنوات القليلة الماضية.
هذا الوضع يعكس مدى عمق الأزمة الناشئة بين النخب في الإقليم منذ ثورات 2011. فالنخب العربية الحاكمة تفتقر لمن يقول لها الحقيقة حتى من بين شركائها السابقين، وهي بنفس الوقت تفتقر للشركاء الأقوياء في ظل أوضاع تزداد سلبية وركاكة، كما وتفتقر للمقدرة على إبداع برنامج وطني تنموي إصلاحي يتضمن مضموناً سياسيّاً يخاطب الشباب ويقدم لهم الجديد. الوضع العربي الراهن بلا عمق سياسي واجتماعي وتاريخي. وهو معرض لمزيد من الهزات. في هذا الواقع العربي المنقسم على نفسه تتجمد الخبرات والطاقات، ويصبح الفراغ سيد الموقف.
إن النخب العربية المكونة من وزراء سابقين وشخصيات عامة ممن لم تعد قريبة من صناعة القرار كما كان الأمر بالسابق تشعر بالتهميش بينما غالبيتها تمر بحالة من الترقب الصامت، بعضها أصبح خارج الوطن العربي برمته وآخرون في السجن بسبب إسماعهم لصوتهم ورأيهم، وليس من الغريب أن نجد بين هذه النخب التي كانت في السلطة من تحول لمواقع المعارضة السياسية.
وتستمر السيطرة في النظام الرسمي العربي بيد الأقوى أمنيّاً والذي يتحكم بالإعلام ويمارس سياسة الاستثناء: الاستثناء في ممارسة القانون والتشدد تجاه الاختلاف والحريات، والاستثناء في القرارات السريعة غير المدروسة. هذا الأقوى لا يشترط أن يكون الأثبت في المرحلة القادمة، فالقوة الأمنية المفرغة من الإقناع والمحاطة بالفساد والمعزولة شعبيّاً لن تحقق سوى استقرار مؤقت لا يلبث أن يهتز عند أول منعطف. إن الاستقرار الدائم يتطلب الإشراك والإجماع وقواعد للعبة السياسة يقبل بها المجتمع.
ويغيب عن السياسة العربية في هذه المرحلة الآليات البديلة لتراجع الشرعيات القائمة على الدين والجيش والأمن والمال والقبيلة والأسرة. لأسباب تاريخية متعلقة بضعف إنجاز الأنظمة العربية وضعف التطوير وندرته تتراجع هذه الشرعيات، وخاصة أننا في زمن ضمور دور المال والريع الذي تحكم بسياسات الدول العربية في العقود الأربعة الماضية. وحتى اللحظة لا توجد شرعية بديلة في العالم العربي تستند في جانب منها على الصدقية وقواعد لأخلاقيات الصراع والاختلاف، وفي جانب آخر منها على صناديق الاقتراع وتوجهات الناخبين والرأي العام. ويترافق كل هذا مع تغييب الأنظمة للخبرة المحلية والوطنية والمعرفة والإنجاز. لهذا يزداد الفراغ، ويحتدم الصراع بين النخب كما وبين الأيديولوجيات في الشارع. أما الرابح في أعلى الهرم في العالم العربي والذي نجح في فرز وتهميش الحلفاء السابقين والسياسيين والمعارضين فسيجد نفسه وحيداً في ميدان يزداد صعوبة.
الفراغ مستمر، فلا النخب الحاكمة قادرة على الإمساك بالأدوات التي تطور الواقع وتفتح الطريق لنخب المستقبل وخاصة من الأجيال الصاعدة، ولا النخب القديمة قادرة على التأثير الجاد في الواقع الذي خرج عن طوره، كل الطرق والأسس القديمة في حالة تفكك وتراجع منذ ثورات 2011، ولهذا تتعمق «الداعشية» و «القاعدية» والتطرف في الوضع العربي. لم يمر على العرب، ومنذ زمن طويل، أزمة بهذا العمق. في المشهد العربي يحتدم الصراع العلني والمستتر بين النخب. الحالة العربية في نزاعاتها مركبة، لكن أزمة النخب وسعي بعضها للتحكم الشامل في ظل غياب القواعد الدستورية المنظمة للصراع فيما بينها ما هو إلا انعكاس للأزمة الأوسع في الإقليم.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 5130 - الخميس 22 سبتمبر 2016م الموافق 20 ذي الحجة 1437هـ