في الثالث عشر من سبتمبر/ أيلول العام 1993، وبعد مفاوضات سرية طويلة، قادها عن الجانب «الإسرائيلي» شمعون بيريز وعن منظمة التحرير الفلسطينية، أحمد قريع، وجرت في العاصمة النرويجية، جرى توقيع اتفاقية أوسلو، بالبيت الأبيض، وبإشراف الرئيس الأميركي بيل كلينتون. وقد وقع الاتفاق إسحق رابين عن الجانب «الإسرائيلي»، وياسر عرفات عن الجانب الفلسطيني. وقد نص الاتفاق على إنهاء النزاع المسلح، بين منظمة التحرير الفلسطينية، والكيان الغاصب. كما رتب لإقامة سلطة وطنية فلسطينية، في الضفة الغربية وقطاع غزة. ونص على أن تنسحب قوات الاحتلال «الإسرائيلي»، من غزة وأريحا في غضون شهرين من توقيع الاتفاق. وأن يجري انتقال سلمي للسلطة من الحكم العسكري، والإدارة المدنية للاحتلال، إلى ممثلين فلسطينيين تتم تسميتهم، لحين إجراء انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني.
كما نص الاتفاق، على أن تبدأ مفاوضات الوضع النهائي، بين الصهاينة والفلسطينيين، لحسم موضوع القدس والمستوطنات، والمواقع العسكرية والمستوطنين، المتواجدين في الأراضي المحتلة. وعلى رغم مرور 23 عاماً على الاتفاق المذكور، فإن مفاوضات الحل النهائي، ظلت معلقة، ولم تصل بعد إلى نتيجة. وبقي حلم منظمة التحرير الفلسطينية، في قيام دولة مستقلة على أراضي الضفة والقطاع معلقا حتى يومنا هذا.
من حق الفلسطينيين بشكل خاص، والعرب جميعاً أن يتساءلوا بعد مضي هذه الفترة الطويلة على توقيع الاتفاق المذكور، عن جدواه. ماذا تحقق لهم، وأين وصلت تطلعاتهم في قيام دولة مستقلة على الأراضي الفلسطينية، التي تم احتلالها عام 1967، وكذلك عن مصير المبادرات والتفاهمات، التي جرت، وذهبت جميعها أدراج الرياح، وأن يجروا جردة واضحة وشفافة لحساب الأرباح والخسائر.
واقع الحال، إنه باستثناء قيام سلطة فلسطينية، فوق الضفة الغربية وقطاع غزة، وسجادة حمراء مؤقتة، في مطار غزة الدولي، المدمر منذ أكثر من 10 سنوات، ومنح جوازات سفر فلسطينية للمقيمين، مجازا بالأراضي الفلسطينية التي تحت سيطرة السلطة، وتحويل مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية المتواجدة أصلا في معظم دول العالم، إلى سفارات للدولة الفلسطينية المرتقبة، فإن ما حصده الكيان الصهيوني من مكاسب لا تقدر بأثمان، كل توقعاته، منذ لحظة تأسيسه حتى توقيع الاتفاق.
لقد كان الإنجاز الصهيوني الأهم والأكبر من هذا الاتفاق، هو إلغاء حق المقاومة، الذي كفلته شرائع السماء والأرض، للشعوب التي تقع تحت طائلة الاحتلال، وتنازل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، عن حقوق الفلسطينيين في أرضهم التي احتلت عام 1948، والاعتراف بالكيان الغاصب. بل إن الأمر شمل تنازلات عن قرارات كثيرة ، صدرت عن الأمم المتحدة، كقرار التقسيم رقم 181 في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1947، والذي قضى بتقسيم فلسطين مناصفة بين الصهاينة والفلسطينيين، ووضع مدينة القدس تحت وصاية دولية.
والانجاز الآخر، هو تجريم مقاومة الاحتلال والعمل على تحرير الأرض، باعتبار ذلك خرقا لاتفاقية أوسلو، رغم أن الكيان الغاصب، واصل بقوة سياساته التوسعية والعنصرية بحق الشعب الفلسطيني، ومن ضمنها سعيه المتواصل والحثيث من أجل استكمال تهويد المدينة المقدسة.
لقد تضاعفت في السنوات الثلاث والعشرين الماضية، عمليات بناء المستوطنات «الإسرائيلية» بالضفة الغربية، واجترح العدو الصهيوني، بناء الجدران الإسمنتية العازلة، والطرق السريعة، والمعابر التي أكلت أكثر من نصف مساحة الضفة الغربية. وتشير التقديرات إلى أن ما تبقى للفلسطينيين، لكي يفاوضوا عليه بالضفة الغربية وقطاع غزة، لا يتجاوز الـ 47 في المئة من الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها في حرب يونيو العام 1967.
ومن جهة أخرى، سهلت إجراءات التنسيق الأمني بين حكومة الاحتلال والسلطة الفلسطينية، على العدو اصطياد القادة من المقاومين الفلسطينيين، من أمثال مروان البرغوثي وأحمد سعدات، الذين قامت السلطة بتسليمهم مباشرة، من قبلها لقوات الاحتلال. وجعلت الصهاينة، يواصلون بسهولة قضم ما تبقى من الأرض الفلسطينية، من غير مواجهة تذكر، من قبل الفلسطينيين.
والأهم من ذلك بكثير، هو ما فرض على السلطة الفلسطينية، ممارسته، تربوياً وإعلامياً، من حيث تزييف الذاكرة والتاريخ. فالبرامج التعليمية، التي يدرسها الطلاب الفلسطينيون بالضفة، تغيب حقيقة التاريخ والوجود المتواصل والممتد لأكثر من ألفي عام للفلسطينيين فوق ترابهم الوطني. وتغيب فيها حقائق الجغرافيا والتاريخ. ويتم ذلك، في وقت يواصل فيه العدو تدمير البنية التحتية، واستئصال كل ما من شأنه أن يحفظ للفلسطينيين ذاكرتهم في أرضهم، وأرض أجدادهم.
ولا شك في أن انشطار قطاع غزة عن الضفة الغربية، من النتائج الكارثية لقيام السلطة، فهو في المبتدأ والخبر، نتيجة طبيعية لتكالب الصراع على الحكم، بين مركز السلطة التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتحديداً لحركة فتح، وبين حركة حماس بالقطاع. ولم يكن للصراع أن يحتدم بين حركتي حماس وفتح، من غير الصراع على مقاعد المجلس التشريعي ووهم اكتساب سلطة، ليس لكلا المتصارعين عليها ناقة أو جمل. وأي تبرير آخر لهذا الصراع، لا يصمد أمام الواقع، وأمام سعي مختلف الفرقاء على التوصل إلى تفاهمات مشتركة، مع إدارة الاحتلال.
آن للفلسطينيين، أن يعيدوا النظر في اتفاقية أوسلو، وأن يصيغوا استراتيجية كفاحية جديدة، تعتمد على تثبيت الذاكرة الفلسطينية، وحق الفلسطينيين التاريخي في أرضهم، فهذه الاتفاقية هي كما قال عرابها أحمد قريع، اتفاقية مؤقتة مدتها 5 سنوات فقط، التزم بها حرفياً الجانب الفلسطيني، وانتهك بنودها العدو.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 5130 - الخميس 22 سبتمبر 2016م الموافق 20 ذي الحجة 1437هـ