القضايا التي تناولتها قمة هانغتشو الصينية مطلع الشهر الجاري، وما جرى بشأنها من حوار اقتصادي استراتيجي؛ يعكس طبيعة الأزمات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد الرأسمالي، والكيفية التي يعيد فيها إنتاج نفسه باستمرار.
لاشك أن الثورات الصناعية والعلمية التي حدثت في إطار العولمة، أحدثت متغيرات جذرية اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً في المجتمعات، كما أعادت هيكلة الاقتصاديات الوطنية وأثرت في الاقتصاد الرأسمالي العالمي بأكمله، وكل ذلك حدث كما يذكر فؤاد مرسي في مؤلفه «الرأسمالية تجدد نفسها»، في سياق حروب مدمرة، وأزمات يجري فيها البحث عن مصادر جديدة للطاقة والمواد الخام والأسواق الجديدة.
وبقدر ما كسرت العولمة الحواجز وفتحت الأسواق؛ أدت بالمقابل إلى ارتفاع مستوى الإنتاج للمستوى الذي تركزت فيه القوة والثروة والنمو الاقتصادي عند دول دون غيرها، كما تطوّرت معها قوانين الاقتصاد، بيد أن العملية الإنتاجية ومعها قوانين السوق، تشوّهت لاسيما مع تغير مفهوم السلعة، وتبدل هيكل الاقتصاد وبروز ظاهرة الاستهلاك. إن إعادة هيكلية الاقتصاد كما يضيف مرسي، لم تجر بمعزل عن المنافسة الدولية غير المتكافئة التي عمّقت الانقسام، وفجّرت أزمة جديدة غير تقليدية في نمط تقسيم العمل الدولي، حيث اختلت معه التجارة الدولية، ووضعت القيود عليها فزادت معها إجراءات الحماية، وحدث هذا من جانب الدول الصناعية المتقدمة وليس العكس.
من هذا المنطلق، يمكن قراءة قمة هانغتشو التي بادرت الصين بإطلاقها إثر الأزمة المالية العام 2008، وهي تمثل دول العشرين الذين يمثلون ثلثي سكان العالم، ودولهم تشكل نحو 85 في المئة من الاقتصاد العالمي، كما تساهم بـ75 في المئة من التجارة العالمية، ما يعني أن لقراراتها تأثيراً قوياً على الاقتصاد العالمي.
أزمات هيكلية
ترافق مع عقد القمة وضع اقتصادي وسياسي عالمي تميّز بحالة قاتمة لنمو الاقتصاد العالمي، لاسيما بعد تعهد قادة القمة في العام الماضي بزيادة النمو بنسبة 2 في المئة مع حلول 2018، بيد أن الخبراء يتوقعون استمرار تفاوت النمو وضعفه في ظل مواصلة التنافس المحموم بين الدول الكبرى في المجموعة.
إضافةً إلى ذلك، كثر الحديث عن مخاطر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وما يشكله من تحدٍ كبير بسبب الصدمة التي أحدثها للأسواق المالية، والتي لا يزال قادة القمة يتحسبون منها في التأثير على حدوث ركود اقتصادي، خصوصاً مع دخول بريطانيا عملية ستستمر سنوات للإنفصال عن أكبر شركائها التجاريين، والتأهل للقيام بدور اقتصادي عالمي جديد، وهذا باعتراف رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي بأن «الاقتصاد البريطاني سيعاني نتيجة الانسحاب، على رغم ظهور علامات في بيانات اقتصادية بأن التأثير ليس كبيراً كما توقع البعض».
الإغراق والحمائية
لكن الأهم الذي يجمع عليه المحللون، يتعلق بالصين التي تتمتع بوفرة مالية ورخاء اقتصادي انعكس على حجم التبادل التجاري بينها وبين واشنطن، إذ بلغ 659.4 مليار دولار في 2015 لصالح الصين، التي أصبحت دائناً رئيسياً لواشنطن، لاسيما بعد شرائها سندات الخزينة الأميركية المثيرة لقلق الولايات المتحدة، في حين تعمقت الخلافات بينهما بشأن قضايا الإغراق التي طغت على حوارات قمة هانغتشو، خصوصاً لجهة الشكوى من تدفق صادرات الصين للصلب المنخفض التكلفة، إذ يرى فيها الغرب وواشنطن تهديداً لفرص العمل، جعل الأخيرة تلجأ إلى فرض رسوم لمكافحة الإغراق وتخلصاً من ركود سوق الفولاذ. وعلى رغم إشادتها بجهود الصين في خفض فائض طاقتها الصناعية، إلا إنها تصر بأن هذه الطاقة تشوه وتضر بالأسواق العالمية. وفي هذا الصدد، حذّر خبراؤها الاقتصاديون من اللجوء إلى الحمائية التجارية، لقصورها في علاج المشكلة العميقة التي تعاني منها صناعة الفولاذ الأميركية، وأكدوا بأن القيود على الواردات ستضر باقتصادهم الكلي ولن تخدمه.
من جهة متصلة، الصين ترفض الحمائية التجارية كتدبير علاجي لمواجهة المخاطر المهددة للإقتصاد العالمي، وعوضاً عنها تدعو للإلتزام بقواعد منظمة التجارة العالمية المتفق عليها وإجراء حوارات لحل النزاعات التجارية، مؤكدةً أن تنامي الحمائية يشكل خطراً كبيراً على الأسواق المالية بفعل ارتفاع مستويات الاستدانة. وهنا يشير محافظ البنك المركزي الصيني إلى أهمية تحفيز النمو الاقتصادي العالمي عبر تطوير أسواق مالية قوية وتعزيز الثقة بالسوق، وعدم وجود تخفيضات تنافسية لأسعار العملات وترك السوق يحدد سعر الصرف.
وفي سياق حوار القمة أيضاً، امتد السجال إلى استراليا التي اتهمتها الصين بالرضوخ لسياسات الحماية التجارية، بتوقيف صفقة بـ7.7 مليارات دولار، لبيع أكبر شبكة كهرباء في البلاد إلى مستثمرين صينيين، إضافةً لمنعها صفقة لبيع شركة كيدمان اند كو للمواشي إلى «كونسورتيوم» تقوده الصين، وطالبتها بتوفير بيئة شفافة ونزيهة للمستثمرين الأجانب.
قوة الصين
ومع قدرة قادة القمة على موازنة الطلب الصيني بمحاربة الحمائية والمطالب المقابلة برفض الإغراق، وتجديد تعهداتهم باستخدام الضرائب والإنفاق في تنشيط الاقتصاد العالمي، إلا أن توقعات بعض التقارير سوداوية من حيث استمرارية مواجهة الاقتصاد العالمي لتحديات جوهرية، بل إنه مقبل على واحدة من أصعب وأعقد الأزمات الاقتصادية والمالية عالمياً، والتي ربما تنفجر هذه المرة من الصين. وثمة من يرى أن النفوذ الصيني يتنامى في ظل احتمالات تراجع النفوذ الجيوسياسي والاقتصادي الأميركي، ما يعني أنها غدت قوة عظمى مع ازدياد نفوذها الجيوسياسي وامتلاكها المعلوماتية وتمددها الاقتصادي، لاسيما بعد رسم تحالفاتها مع روسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا والهند (دول البريكس)، وما يمثله دورها الكبير في تعديل ميزان القوة في العلاقات الدولية التي كسرت الاحتكار والأحادية القطبية.
يبقى القول أن قمة هانغتشو تشكل أهمية خاصة للصين التي كانت مقصداً لطلب المساعدة للخروج من الأزمة المالية في 2008، ولهذا تشعر بضرورة تأكيد قوتها الاقتصادية، ليس بوصفها ثاني أقوى اقتصاد عالمي بعد الاقتصاد الأميركي، إنما لكونها تستحق أن تلعب دوراً يتناسب ووضعها ومكانتها كزعيمة للقمة وصاحبة نفوذ في إدارة الاقتصاد العالمي، ولهذا أصرت على السماح لبضائعها ومنتجاتها من المرور والنفاذ للأسواق دون معيقات. لقد استطاعت بالذكاء والحنكة تثبيت نص صريح في البيان الختامي يؤكد معارضة الدول المشاركة لكافة «أشكال الحمائية في مجالي التجارة والاستثمار»، بيد أن إشكالية القمة تبعاً لبعض التحليلات تكمن في ابتعادها عن معالجة قضايا أساسية لها علاقة بمواجهة حركات مناهضة العولمة والرافضة لاتفاقات التبادل الحر التي غالباً ما تؤدي إلى خسارة بعض الصناعات الوطنية التي لا تستطيع مواجهة التنافسية مع شبيهتها المستوردة، مما يشكل تحدياً خطيراً في رفع معدلات البطالة والفقر. كما إنها لم تأخذ على محمل الجد معالجة بطء نمو الاقتصاد العالمي، ومكافحة الفساد وتجنب حدوث أزمة مالية. حقاً إنها علة النظام الرأسمالي وأزماته المتجددة.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5128 - الثلثاء 20 سبتمبر 2016م الموافق 18 ذي الحجة 1437هـ