قريبتي موظفة في إحدى الوظائف الإنسانية، في منتصف الأربعينات تحب عملها وجمهور من تقدّم له خدماتها وزميلاتها اللاتي رافقها بعضهن منذ سنوات الجامعة والتخصص معاً في المادة التي امتهنّها فيما بعد وتدرجن، وتحب أيضاً الجو الاجتماعي في العمل الذي حتّم أنشطة ممتدة بين الزميلات خارج العمل. وفجأةّ قرّرت هذه القريبة، وقبل 5 سنوات من خطتها الأصلية، التقاعد ومعها زميلات الدراسة الثلاث.
قلت لها مازحةً، أتعرفين أنه تم تخفيض ساعات الدوام إلى الساعة الثانية عشرة ظهراً، فقالت: «لن أتراجع حتى لو صار الدوام ساعة». طفح الكيل بهذه القريبة كما طفح بموظفين آخرين في مواقع كثيرة ولأسباب كثيرة، ليس هنا مكان الحديث عنها، والتي كانت وزميلاتها سيصبرن عليه لولا «بالون الاختبار» الذي أطلق قبل أكثر من عامين وجعل التنازل عن الراتب الحالي والقبول بوضع نفسي واجتماعي مفاجئ بديل وغير محدد الملامح أكثر ثقلاً في كفّة الميزان على الأقل في المستقبل المنظور.
حالة هذه القريبة ليست فريدةً من نوعها، فكثيرٌ من الموظفين، من مختلف الشرائح والأعمال الحكومية والخاصة، أربكهم هذا «البالون» الذي انتفت عنه صفة الاختبار بعد أن بات شبيها بـ»بالونات» سابقة ما لبث أن تحقق ما أطلقت محملة به، دون الالتفات إلى الكيفية التي تلقاه به الجمهور الموجّه له، و»شوّش» على خططهم المالية والحياتية من أجل عدم التعرض لخسارة التغيير المرتقب في مزايا التقاعد. البعض بات على ثقة تامة أن كل تغيير سيكون إلى الأسوأ على جمهور المعنيين به في ظل «السمعة النمطية» التي باتت تسبق أي تغيير أو تعديل هو آتٍ لا محالة في انحسار دخل النفط الذي يعتبر المورد الأكبر في إيرادات الموازنة، والإشارة إلى التقشف في كل موقع ومناسبة.
التقاعد المبكر ليس قراراّ سيئاً يتخذه الأفراد أو المؤسسات وإنّما خياراً مناسباً إذا كان مدعوماً بأسبابه التي يعيها صاحب قرار التقاعد المبكر، خصوصاً إذا تم التفكير جيداً في القرار ودراسته والتخطيط له أصلاً. ومن إيجابيات التقاعد المبكر للأفراد التبكير بمنح النفس فرصةً للتفرغ لعمل آخر أو ربما التفرغ لأمور كانت مؤجلة لمثل هذا الوقت من العمر، أو للإستمتاع بهوايات أو رياضات لم تكن ساعات العمل الطويلة تسمح بالوقت الكافي لممارستها، فالتقاعد لمن يرى فيه مرحلة حياة جديدة هو قرار يتم الحرص على اتخاذه في وقت مبكر من العمر، ويظل الموظف يخطط له بما يتناسب ومتطلباته على مختلف الأصعدة ووفق القوانين والأنظمة. ولسوق العمل أيضاً يعتبر التقاعد المبكر أحد حلول البطالة من جهة، أو إفساح المجال لعقول ومهارات حديثة تتناسب خبراتها مع متطلبات التسارع التقني والإداري في كل المجالات.
الكثير من الأعمال يتعاقب عليها شاغلوها ويبنون إرثاً للمؤسسات التي يعملون فيها، وحين يغادرون يبقى هذا الإرث ليكمل بناءه الجيل التالي ممن سيتولون مسئوليته، وإن كانت لدى المؤسسات سياساتها الخلافية ببرامج نقل الخبرة فيما بين أجيال موظفيها بطريقة مهنية وسلسة فإنها تحافظ على مستوى رأس المال البشري فيها ومستوى الخبرات ويصبح التقاعد بصورتيه، الحتمي والاختياري المبكر، ملبياً لمتطلبات وتطلعات كل الأطراف.
لكن في بعض الأعمال الإنسانية التي يشكل الإبداع الفردي والتميّز عنصراً أساسياً فيها، فإن دور الفرد يتجاوز في أهميته محيط المؤسسة، وكل يوم عمل يضفي مزيداً من الخبرة المتفردة التي يصبح فقدها المفاجئ أو في غير توقيته خسارة حقيقية ليس في دفاتر الربح والخسارة الخاضعة لأي نوع من وحدات القياس وإنما في صورة ضياع لخبرات ومعرفة متراكمة، ولاتزال خضراء ومثمرة وقابلة للمزيد من المساهمة في البناء والإنتاج، كما حدث في إحدى المؤسسات التعليمية الكبرى التي غادرها عشرات من خبراتها الوطنية في قرارات في أغلبها ردود فعل مرتبكة لتخوف من فقدان «تحويشة العمر» التي راكمها أصحابها لتؤمن لهم عيشاً لائقاً بعد حين، تاركين بهذه المغادرة السريعة، الساحة لبدائل خلافتهم وهي في الغالب مستوردة لضعف خطط الإحلال أصلاً في هذه المؤسسة. هذه البدائل ليس بالضرورة أن تكون سيئة لكنها بالتأكيد ستكون عوامل فرملة في مسيرة هذه المؤسسة، وستتطلب الكثير من الجهد المخلص والولاء من قبل القائمين عليها، لأهدافها الأساسية التعليمية والوطنية لكي تعاود الحركة إلى الأمام.
عدا كل ذلك، فإن رأس المال البشري الوطني لم يتكون من سنوات العمل والخبرة فحسب وإنما أيضاً من أموال تم تخصيصها لابتعاث المتفوقين أو حتى أموال خاصة تحملها الأهل استثماراً في أبنائهم. فإن كان تكلفة الطالب في سنوات الجامعة حتى نيله الدكتوراه تكلّف ما يقارب 100 ألف دينار، بتقدير متوسط سريع، فإن مغادرة المستفيدين من هذه الموارد في غير الوقت المناسب هو هدرٌ لهذه الموارد وحرمان لكل الأطراف المرتقبة استفادتها منها.
الأرقام تقول إن نسبة المتقاعدين تقاعداَ مبكراً يتجاوز الـ 80% من الإجمالي في 2015 وفي الربع الأول من 2016. وربما يكون من بين هؤلاء من كان قراره مناسباً وسليماً ولكن حديث المجالس وارتباك الأفراد والمؤسسات يدل أن عدداً لا يستهان به اتخذ قراراً سريعاً وربما متسرعاً، وسوف لن يربك هذا التقاعد المبكر العشوائي بالتأكيد مسيرة العطاء والبناء والإبداع لهؤلاء الأشخاص وحسب، وإنما سيضعضع مجمل ما تراكم ما يسمى الخبرة الوطنية التراكمية، وسيكون تأثير ذلك فادحاً خصوصاً في مؤسسات الخدمات التعليمية والصحية والإنسانية بشكل عام. وسيحرم كل الأطراف من حصد الثمار وهي في تمام نضجها.
الوطن يمر بأحد أسوأ أزماته الاقتصادية، وفي الأزمات تُتخذ قرارات كثيرة صارمة وحازمة، لكن لابد أن من يتربعون على قمة المسئولية يرون في أفقهم الأوسع ما وراء هذه القرارات التي لا يلامون على تحمل صعوبة اتخاذها خصوصاً إن كانت صارمة وقاسية أحياناً. ومهما صعب الوضع لابد من نورٍ سيأتي في آخر النفق. فلتكن هذه القرارات كالدواء الذي قد لا يكون إلا مراً، لكن يحتمل المريض مرارته عندما يتيقن أن فيه الشفاء.
إقرأ أيضا لـ "هناء بوحجي "العدد 5128 - الثلثاء 20 سبتمبر 2016م الموافق 18 ذي الحجة 1437هـ
كلام جميل و واقعي ,, لكن احيانا التقاعد المبكر يتسبب في خسارة عقول مثمر و استبدالها بعقول نائمة..
التقاعد المبكر اصبح امر اجباري على الجميع
جميل جدا أستاذة هناء
التقاعد المبكر لمن يتمتعون بالخبرة والقدرة على العطاء والتطوير والعمل هو أمر سلبي للموظف ولجهة العمل، لأن الموظف يكون مازال لديه طاقة للعطاء والفكر فيسبب له تقاعده امراض نفسية كثيرة، كما أن جهة العمل ستخسر خبرة وإمكانية التطوير وتدريب المستجدين. عموماً في البحرين يعتبر التقاعد المبكر للعديد من الموظفين موت بطيء بسبب الديون على الرغم من أنه من المفترض أن يرتاح نفسيا لابتعاده عن البيئة الحديثة التي أحيطت به والتي لا تواكب أفكاره ولا زمنه !