يأخذ بنا الباحث والمفكِّر الإسلامي حيدر حب الله، في كتابه «مسألة المنهج في الفكر الديني... وقفات وملاحظات»، إلى نتيجة خلاصتها أن المنهج النقدي هو القادر على أن يرينا ما يربط الأخطاء ببعضها. كما يتيح لنا الكتاب فرصة الوقوف على ما تحقق على أيدي عدد من المفكرين العرب والمسلمين في تعاطيهم مع القضايا والمفاهيم والإشكالات التي ترتبط بالثقافة الإسلامية أولاً، والفكر الإسلامي ثانياً، بتعميقهم لطرق تفكير وأساليب لم تتأتَّ إلا باستجواب ومساءلة كثير مما ظلَّ قاراً من طرق التفكير وأساليبه، ولزوم طرق أيضاً بالتشكيك في محصلات بعض ما يُظن أنها فاعليات في ذلك الفكر.
حب الله الذي جمع بين التحصيل العلمي الحوزوي، إلى جانب التحصيل الأكاديمي، استفاد من الأخير استفادة كبيرة بالمنهجية والتحليل فيما يشتغل عليه في فضاء الثقافة والفكر الإسلامي، بحيث جاءت معظم كتبه شاقَّة على الذين اعتادوا المعالجات التي كثيراً ما يُعاد إنتاجها.
يوضح حب الله بأن مقولة المنهج تنتمي إلى الشأن المعرفي من علم الفلسفة، لا إلى الشأن الوجودي، منوهاً إلى جهود عدد من الأسماء الكبيرة في هذا المجال من بينها الإيراني عبدالكريم سروش، والجزائري محمد أركون وغيرهما؛ ما مهد إلى حصول تراجع في البحث الوجودي الأنطولوجي من الفلسفة، تلك التي تبدَّت الاهتمامات به في الحقبة الماركسية.
في الكتاب الذي بين أيدينا، يبدأ حب الله بالإشارة إلى أن مسألة المنهج، أو المحاور التي تلامسه، تحتفظ في العميق من أهميتها لسببين:
الأول، يمهد له بمفترقات الطرق التي تواجهها الأمة، وبالتالي حاجتها إلى نظريات في المنهج «أكثر من نظريات جزئية في هذه الفتوى أو تلك»، لأن المنهج في التفكير والممارسة؛ بحسب تعبيره، هو الذي يضيء للأمة سبيل العمل للتفكير في تلك الحلول أو المنعطفات الجزئية. ذلك المفترق يتطلب من مفكِّري الأمة درساً للمنهج «وبجدِّية عالية»، علاوة على رصد لمصادر المعرفة من جديد.
الثاني، وقت تمت الإشارة إليه سريعاً بداية هذا الاستعراض ويتحدد في أن المنهج النقدي هو القادر على أن يرينا الخيط الرفيع الذي يربط تمام الأخطاء ببعضها، ويقودنا إلى مركز الخلل لكي نقوم بإصلاحه، ويسبق تقريره هذا إشارته إلى أنه في كثير من الأحيان، قد لا تبدو عناصر الالتقاء بين أخطاء عديدة في علوم مختلفة.
الكتاب، ومن خلال فهم مؤديات ومسار الأبحاث المتفرقة فيه، ليس دراسة شاملة وبنيوية لموضوع المنهج، بل هو كما أسماه «أوراق في المنهج»، من خلال ما يقدمه من تصورات. تلك مسألة. مسألة أخرى أن الكتاب نفسه يختص بمسالة المنهج في الفكر الديني الإسلامي فقط، ولا يتجاوزه.
علم الكلام الإسلامي
سيركز الاستعراض هنا على فصل «التجديد المنهجي في علم الكلام الإسلامي»، كون علم الكلام الإسلامي يشتمل على جملة المبادئ التصديقية للمعارف الأخرى «فلابد أن تكون الانطلاقة من القاعدة وصولاً إلى راس الهرم دون العكس».
في تناوله لآفاق التجديد في علم الكلام، ينطلق حب الله من رؤية الكاتب أكبر قنبري، التي نشرها في مجلة «نقد ونظر» العدد التاسع، تلك التي تؤمن بأن التجديد في علم الكلام هو بتحويل الجهد الكلامي إلى مؤسسة أو مأْسسة علم الكلام.
يحتوي هذا الفصل مناقشة لمجموعة من الرؤى في هذا الشأن، مع إشارة إلى أن قسماً كبيراً من مسائل علم الكلام لم يعد له وجود اليوم، كما يعرج إلى التجديد الذي طال كثيراً من مبادئ دراسات علم المعرفة والوجود، إضافة إلى العلوم الإنسانية والطبيعية والأبحاث الرياضية، بحكم التغيرات التي حدثت. مبيِّناً أن الفلسفة نفسها خضعت لتحولات بنيوية، إلى جانب الانقلابات المنهجية التي طرأت على العلوم الأخرى، وصولاً إلى أن المنهج نفسه صار عرضة للنقد والتحليل أيضاً.
الفصل نفسه يحوي إضاءة تاريخية لعلم الكلام الجديد، ضمن مسار التجديد الكلامي المنهجي، وبذوره التي تعود إلى القرن التاسع عشر الميلادي، في فترة شهدت تحديات كبرى تزامنت مع وجود الاستعمارين البريطاني والفرنسي في العالم الإسلامي، وكان للمستشرقين دور بارز في تهيئة الجو العام لبروز الانتقادات الحادة الموجهة إلى الفكر الإسلامي. مع صعود أدوار كبرى ومهمة لعدد من العلماء والمفكرين المسلمين، من بينهم جمال الدين الأفغاني الذي تولَّى الرد على الدهريين، والإمام محمد عبده، والشيخ رشيد رضا، والأبحاث المهمة التي تم تسجيلها لهم، وصولاً إلى المرحلة والأدوار التي لعبت فيها أسماء أدواراً مهمة من أمثال العلامة الطباطبائي، وتلميذه مرتضى مطهري، وعلي شريعتي، وسيد قطب، والسيدمحمد باقر الصدر، ومالك بن نبي، الذين أغنوا علم الكلام بالكثير من الدراسات والأبحاث القيمة، إلى جانب أدوار علماء آخرين في العالم الإسلامي؛ إلا أن تسمية «علم الكلام الجديد « وربطه بالدائرة الإسلامية، ولم تعهد التسمية تلك الدراسات الكلامية الغربية، المسيحية واليهودية، جرى استخدامها للمرة الأولى من قبل الباحث الهندي شبلي النعماني (1274 - 1322هـ)، وذلك في كتابه «علم الكلام الجديد» وإن كانت التسمية نفسها حاضرة في مصر والشام؛ علاوة على طرح مرتضى مطهري لها، وصولاً إلى العقد الميلادي الأخير وبروز التراكم في دراسات هذا العلم خصوصاً في إيران، وقوفاً عند استخدام البروفيسور المصري حسن حنفي مصطلح علم أصول الدين الجديد في إطار مشروعه الشامل، واعتبر مشروعه في الكتاب المذكور وغيره، علم كلام جديداً.
مسئوليات المنهج المعاصر
يوضح حب الله في الفصل نفسه التعديل في وظيفة علم الكلام الجديد، والذي أمَّن له ديناميكية فعالة ناتجة عن إفساح المجال للتعددية الفكرية في النطاق الكلامي، وبالتالي إفساح المجال لتقبُّل أي تطوير جوهري؛ لأن تكثير الخطوط الحمراء من الناحية العلمية يضر بتقدم العلم تقدماً ملحوظاً. مشيراً إلى أنه إذا أُريد لعلم الكلام الجديد أن يتجاوز عقبة «الإسقاطات والتطويع التي ابتليت بها المذاهب والمدارس الكلامية»، فعليه أن يجري تعديلاً أساسياً كما يرى حب الله، في التوظيفات التي يُراد استخدام علم الكلام فيها «عبر تحويله من علم ملتزم مدافع، إلى علم باحث محقق».
يشبع البحث قضايا مثل: التجديد الكلامي أو الكلام الجديد بين الإثبات والنفي، وإشكالية التسمية، والتجديد الكلامي وضرورة قراءة التجربة الكلامية القديمة، كما يتناول الموضوعات المنهجية للكلام الجديد، ضمن نماذج مطروحة في نشاط الكلام الجديد، على مستوى النطاق الديني، اللغة الدينية، النزعة الدينية، التجربة الدينية، عقلانية الدين، معنى وحقيقة الدين، الجوهر والعرض في الدين، القاسم المشترك الديني، مناهج المعرفة الدينية، التعددية الدينية، الدور الديني، المجتمع الديني، المعرفة الدينية البشرية، الثبات والتحول الديني، العلم والدين، الدين والأخلاق، إنسانية الدين، الدين والأسطورة، الدين والأيديولوجيا، آفات الدين، الأبحاث التقليدية الكلامية، والدين بين التراث والحداث.
ضوء على السيرة
يشار إلى أن الشيخ حيدر حبّ الله ولد في 15 يناير/ كانون الثاني 1973م، في مدينة صور بجنوب لبنان، في أسرة متديّنة.
له عدد من المؤلفات العلميّة المهمة من بينها: «التعددية الدينية، نظرة في المذهب البلورالي»، «علم الكلام المعاصر، قراءة تاريخية منهجيّة»، «نظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعي، التكوّن والصيرورة»، «بحوث في الفقه الزراعي، تقريراً لأبحاث المرجع الديني السيد محمود الهاشمي الشاهرودي»، «بحوث في فقه الحج»، «حجية السنّة في الفكر الإسلامي، قراءة وتقويم»، «دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر» (خمسة أجزاء)، «فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، «دروس تمهيدية في تاريخ علم الرجال عند الإمامية» (تقرير بحوث ومحاضرات الشيخ حيدر حب الله بقلم: الشيخ أحمد بن عبدالجبار السميّن)، «إضاءات في الفكر والدين والاجتماع» (خمسة أجزاء)، «حوارات ولقاءات في الفكر الديني المعاصر»، «المدخل إلى موسوعة الحديث النبوي عند الإمامية، دراسة في الحديث الإمامي»، «رسالة سلام مذهبي»، و«حجية الحديث». إضافة إلى أكثر من 10 إصدارات في الترجمات التي تصدَّى لها.
عالم بمعنى الكلمة ، نتمنى من طلبة العلوم الدينية ومن المثقفين في العالم الإسلامي قراءة مؤلفات وكتابات هذا الرجل المخلص لدينه والمجتهد في عمله.