في ألمانيا ، وهي واحدة من أبرز الدول الأوروبية التي قدمت للبشرية في تاريخها الحديث أدباء ومُبدعين وفنانين وفلاسفة وعلماء كتبوا وأبدعوا بلغتهم القومية، ثمة لجنة لغوية تم تشكيلها منذ العام 1991 مختصة برصد أسوأ كلمة جرى تداولها على ألسنة الألمان طوال العام، وقد وقع اختيارها على مفردة «Cutmensch» لعام 2015 الماضي، وتعني بالعربية «إنسان طيّب»، وهو وصف شاع إطلاقه في أغلب مجتمعاتنا العربية في العقود الأخيرة للدلالة على من يتصف بالرحمة والتسامح الإنساني غير الاعتيادي، ولا يتورع كُثر من الناس عن وصف إنسان يتحلى بهذه الصفة الحميدة بـ «الإنسان الطيّب» كتورية لـ»الإنسان العبيط» أو «الساذج»، أو يتم تعريفه أحياناً بـ «الإنسان الطيّب أكثر من اللزوم»، إذا ما وقع في ورطة ما، أو ذهب ضحية نصب من قِبل من أحسن إليه. وفي العام 2014 اختارت اللجنة كلمة «صحافة الكذب» باعتبارها أسوأ كلمة جرى تداولها على ألسنة الألمان ذلك العام.
بيد أن ثمة خيطاً رفيعاً بين سمو الفرد بخصلة العطف والرحمة الإنسانية إلى أقصى درجاتها، وبين تخطي هذه الدرجة القُمة إلى ما يُمكن أن نطلق عليه دخول الإنسان الرحيم إلى دائرة «السذاجة « أو»الطيبة المُفرطة»، فلما كنا نشهد تحولات مجتمعية هائلة على الصعيدين العربي والعالمي، حيث أخذت تنتشر فيها بمعدلات تصاعدية قيّم الأنانية الفردية في مقابل تراجع وانحسار قيّم التكافل والتعاضد الاجتماعي، كما هو الحال في أكثر المجتمعات المتأثرة باجتياح ثقافة الرأسمالية المتوحشة، فإنه بات يُطلق حتى على من يتصف بالحد الأدنى من نزعة الرحمة والكرم وحُب مساعدة الآخر «الإنسان الطيّب» بمعنى «الساذج « أو»الطيّب أكثر من اللزوم».
لكن هذه المفردة لم تشع في المجتمع الألماني مصادفةً، إذ عرف العالم بأسره كيف تعاطف الألمان مع موجات هجرة ذوي القوارب، ثم ازديادها بأعداد هائلة، والذي تزامن مع وقوع أعمال ارهابية في فرنسا، ثم طاولت أخيراً بلجيكا وألمانيا نفسها، كل ذلك أتاح للدعاية اليمينية استغلال ذلك لوصف الانسان الألماني البسيط، أو المنحدر من الطبقات الوسطى والذي مازال يتحلى بالنزعة الإنسانية الرحيمة تجاه أخيه الإنسان بـ»الإنسان الطيّب» بالمعنى السلبي المُحرّف، ولذا أقرت بأسف رئيسة لجنة التحكيم الألمانية المختصة باختيار الكلمة الأسوأ العالمة اللغوية نينا يانيش بأن ترويج هذه الكلمة بهذا المفهوم يشوّه قيمة التسامح، ويحد من انتشارها كقيمة إنسانية جميلة، بحيث تنتفي مع رواج هذا المفهوم، إذا ما ساد، قيمة الحوارات الديمقراطية، والحجج الموضوعية التي يتمسك بها المدافعون عن اللاجئين لدواع إنسانية.
وإذا كانت فلسفة التعاضدات والمساعدات الإنسانية تشهد عالمياً تراجعاً على صعيد الواقع الاجتماعي المحلي والدولي معاً، وتلحق بمفردات قيمها الأخلاقية الجمالية تشوهات على نحو ما أسلفنا، ويحاول المسئولون عن ذلك تسويق هذا التشويه بين أبناء ذوي الانتماء الثقافى والديني المشترك، والذين يستظلون سياسياً بنظام علماني ديمقراطي واحد، كما في النموذج الألماني، فعليهم أن يعلموا وأمثالهم في بلدان العالم قاطبة أن منظومة القيم الإنسانية العالمية، مهما تعددت مشاربها الدينية والفلسفية والفكرية، لا تتجزأ أو تحصر بنطاق عرقي أو قومي أو طائفي محدد، ففي النهاية فإن نزعة الأنانية اللاإنسانية إذا ما تمادت ومورست سواء بدوافع قومية أو دينية أو طائفية أو قبلية ستتضخم لتلتف على رقاب ناسجيها ومروجيها أنفسهم، مهما طال الزمن. وقديماً قالت العرب: «وعلى الباغي تدور الدوائر» .
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5127 - الإثنين 19 سبتمبر 2016م الموافق 17 ذي الحجة 1437هـ