رَحَلَ الشيخ علي بن الشيخ إبراهيم المبارك عن دنيانا. رَحَلَ سعيداً فقيداً بعد أن عاش مودوداً حميداً. رَحَلَ مُجللاً بالعلم والفضل والتحقيق والتدقيق والنباهة وقرض الشعر، والأرُب، وجلال القدر كسمات في شخصه، لم يستطع المرض وشِدَّته واستطالته به أن يزيح واحدة منها عنه.
كثير من رجال الدِّين (بل ومن طلاب المعرفة عموماً) حين تحاصرهم مشاغل الحياة أو يجتاحهم السَّأم يكتفون بما تحصَّلوا عليه، ليتوقف عندهم مسير العلم. لكن هناك مَنْ هو على غير ذلك. فلا الفقر ولا المسغبة ولا الأسقام بقادرة على إيقاف نَهَمِه للعلم، والراحل كان واحداً منهم.
لكل مَنْ عايش وعاصر الراحل الشيخ علي المبارك ورام إنصافه لابد أن يُسجِّل في حقه سبع ملامح أساسية، اصطبغت بشخصيته رحمه الله:
أولاً - الثقافة: فقد كان الراحل مثقفاً من العيار الثقيل. فعلى رغم أنه كان رجل دين، فإنه لم يحصر اطلاعه على الفقه والأصول وعلم الرجال وغيرها من العلوم الدينية فقط، بل كان يقرأ في كل شيء. حتى الروايات الأدبية وكتب الجغرافيا والفلك والتاريخ كان يقرأها بالاهتمام ذاته.
وعندما سألت مَنْ عاصروه سنين خلال فترة الدراسة، عن الساعات التي كان يقضيها الراحل في القراءة، أوجزوا لي صورة ذلك بأنه يقرأ مادام مستيقظاً، كناية عن كثرة اطلاعه وحبّه للكتاب. وكان في الوقت ذاته مدوناً لكل ما يقرأه ويعتقد بأنه قد يخدم بحثه، حتى ولو كانت قصاصة صغيرة من كتاب ضخم، وهو ما مكَّنه لأن يُصبح ذا ثقافة واسعة في الكثير من العلوم، جنّبته أن يكون غريراً حين تواجهه الحياة وتحديات العلوم الأخرى، ومكّنته في مشواره التحقيقي والتأليفي.
ثانياً - إن الراحل كان محققاً بارعاً، هدفه التثبّت والتيقن مما كُتِبَ على القرطاس في زمن غابر. لقد كان يأتي بالمخطوطات بنسخها ومنازلها المتعددة، يطالعها ويقارن بينها ويقرأ حولها ببليوغرافياً بصبر خرافي. ولكل مَنْ عرف أصول التحقيق يدرك أنه ليس تحشية لموضوع مضمر، بل هو إبراز للكتاب كما ألِّفَ من صاحبه، وهو ما يجعل من المحقق مدركاً بالضرورة للغة عصر الكتاب وعالماً بجوهره.
لذلك، كان الراحل يصرف الجهد الكبير في تثبيت عنوان المخطوط وكاتبه وحقيقة انتساب الكتاب إليه، وتعقب نصوصه، غايته في ذلك تجنيب المخطوط التصحيف والتحريف، الذي ربما تسلل إليه بفعل النسخ المتعدد، ليقدمه بلا نقص ولا زيادة ولا زلات، كي يجعل الكتاب في مداره الزمني والمكاني. وهي مهمة تزيد مشقتها عن التأليف نفسه لما تتطلبه من دقة وصبر قد لا يحتمله كثيرون.
ثالثاً - كان صاحب إرادة وجَلَد في طلب العلم. وكان عندما يتفرّغ لموضوع ما يستهلك من الوقت والجهد الكبيريْن كي يُتمّه. وربما كان كتابه قرن المنازل واحداً من دلالات صبره على سَبْر غور البحث، حيث قام بمطالعة الكتب القديمة التي تحدثت عن البلدان سواء لياقوت الحموي أو ابن بطوطة، وكذلك ما قاله وسرده الرحالة، إلى حيث الدراسات الحديثة كي يثبت مكان الميقات وهل هو عند السيل الكبير أم الهدا.
وكان الراحل في ساعات المباحثة العلمية مناظراً ذكيّاً قوي الفكرة حاضر الذهن صاحب خاطر وقَّاد، عندما يحيط بالأمر ويتفرّغ له. لذلك كان متمكناً من المطالب العلمية حين يلملمها، حتى في أدق المسائل وأصعبها.
رابعاً - كان عصامياً طوال سنين عمره لا يتَّكِل في أموره على أحد. وكان الطلبة يرونه قائماً بشئون المنزل بنفسه، عندما يعطب جهاز في البيت محاولاً إصلاحه. وربما كان لحياة الفقر التي عاشها دور في ذلك. فالراحل وخلال تحصيله العلمي لم يكن يعيش بحبوحة حياة، بل يوم كله كدّ وتعب.
خامساً - كان متواضعاً حسن المعاشرة، مستطاب المجلس، صاحب فكاهة. وربما كان لحفظه الشعر وإتقانه له، واطلاعه الواسع على كتب التاريخ والسِّير والتراث دور في جعل استحضاره للنكت العلمية متميز. وكان الجميع يتوق إلى حديثه والاستمتاع بما يقوله، وكأنه سِفْر متحرك.
لم يكن الراحل يعرف جفاف المنطق والطبع مطلقاً، بل كان ندياً في حديثه، مدفوعاً بالخلق الرضي والمعشر الطيب والروح العذبة والتواضع الجم، الذي يبقى المدخل الأساس كي ينفذ المرء إلى قلوب الآخرين.
سادساً - كان كارهاً للخلاف والخصومة، ودائم الوَصْل بالناس نقي السريرة. وهي سِمَة أساسية في شخصية الشيخ الراحل، فتراه يحضر مجالس الجميع ويتواصل معهم دون غضاضة، وهو ما جعله مقصداً (وآخرين) لحل المشكلات الثنائية والجماعية خلال فترة تحصيله، واستضافة طرفَيْ الخلاف (أو أطرافه) في منزله، طمعاً في تسكين النفوس وإعادة شعبها إلى بعضه بعد كسره.
كما أنه كان متعاهداً على الشيء مرة وأخرى، متفقداً إياه. لذلك، كان يراهن في علاقته حتى بمقدار شَعَرَة، فلا يقطعها أبداً، وهو إنَّما يدلّ على صفاء قلبه وتجنبه للأحقاد.
سابعاً - كان حكيماً في تصرفاته ليس بمتسرّع ولا متهوِّر، ولا يخطو خطوة إلاّ وهو عارف بها متأمل في مآلها. ولا يقال للرجل إنه حكيم حتى يُرى ذلك في قوله وفعله، والشيخ علي المبارك رحمه الله مشهود في قوله وفعله الحكمة، لذلك كان فعلاً حكيماً.
لقد رحل الشيخ المبارك تاركاً ذكرى حسنة عند مَنْ عرفوه وسمعوا عنه، فـ «لله دَرُّكَ من مِجَنّ في جَنَن، ومُدرج في كفن، وإنا لله وإنا إليه راجعون».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 5126 - الأحد 18 سبتمبر 2016م الموافق 16 ذي الحجة 1437هـ
شكرا أستاذي الفاضل
عرفتنا على شخصة الشيخ
رحمة الله عليه
صحيح الشيخ علي آل مبارك لم يكن غنيا ولكنه كان يعيش في مستوى جيد إن عمله في منزله من باب حب العمل وخدمة العيال
هو رجل العلم والادب
الف رحمه تنزل على روحه الطاهرة وهو اية من آيات الله تعالى في البحرين العزيزة في مجال العلم والثقافة والمعرفة والفقاهة... شكرا لك استاذ محمد
ليس جميع أبناء الشيخ ابراهيم المبارك كانوا ميسورين والشيخ علي ممن عاش حياة صعبة
رحمة الله عليه .. كاتبنا العزيز .. ربما لم تكن دقيقاً في أسباب عصاميته وإصلاحه للأجهزة في منزله .. لم يكن الشيخ فقيراً في حياته أبداً .. بل كانت تلك من سماته الشخصية "مهاراته وهواياته اليدوية والمهنية" ..
كان في بداية عودته من قم المقدسة في حالة مادية صعبة لا يعرف عنها الكثيرون
شكرًا على المقال عرفتنا بالعالم الراحل رحمه الله وعلمتنا من سيرته ما يفيدنا.
الله يرحمه برحمته الواسعة
الفاتحة
رحمة الله عليه
تعرفت على عائلته الكريمة وكان من القلائل الذين يكون الدين والعلم في حياتهم قولا وفعلا .. اللهم ارحمه برحمتك الواسعه واحسن عزاء فاقديه ومحبيه
لقد عاشتره سنين طويله من الصغر قبل ان يكون فى مصاف العلماء الاجلاء وكانت لنا معه سهرات فى منزل والدنا العزيز ابو حسن نقيم مسابقات شعريه وكان دائما ما يتفوق فى ابياته الشعريه ويصحح لنا بعض الابيات حسين ابراهيم كواز