من بين أسرار الكتابة، وقدرتها على إعادة الخلق، أن تنتشل العادي وتقدِّمه بشكل غير عادي. أن تلتفت إلى ما تظنه قبيحاً، هامشاً، لتفجِّر الجمال المكنون فيه. تجعل الهامش: متْناً/ مركزاً. وأجمل ما في أسرار الكتابة أنها فاضحة بامتياز. أجمل ما فيها أنها تُلفت نظرنا إلى العمى الذي ينتابنا في رؤيتنا للأشياء. أن تمنحنا الأشياء تلك نظراً حادَّاً لا يكتفي بسطح الأشياء التي نرى، بل الولوج إلى ابعد من العميق فيها، وربما يكمن العميق في ذلك الذي نراه سطحياً وغير ذي بال وأهمية.
نصُّ «أشياء تعجبني»... من سيرة «حتى لو كُشف لك لن ترى»، للقاص والروائي وكاتب السيرة والفوتوغرافي حسين المحروس، الذي تنشره «الوسط» في عددها اليوم، يكتنز بما يشبه العادي الذي تحتفظ به الذاكرة، وقد طال مكوثه فيها؛ وقدرة المحروس، بعد اختمار كل ذلك على شعرنته، أن يكون على تماس مع السيرة وما بعدها، بتشكيل تلك التفاصيل حياة بأسْرها، أو جوانب من حياة ظلت مهملة بدعوى عاديتها، لكنها ليست كذلك بموهبة الصقل، وحساسية التوظيف، وما يبدو أنها نثرات وشظايا تلتحم لتشكِّل تفاصيل حياة في بياضها الآسر، وتفاصيل أمكنة ظلت عصيِّة على التكرار، لكن الذاكرة تملك تلك القدرة على استدعائها، بالتفاصيل التي تبدو غير متآلفة، وغير منسجمة، لكنها باستحضارها تشكِّل الحضور بكل النقائض فيه، وبكل ذلك الموازييك الجميل، في تدافع للصور، والمقامات والوجوه، وحتى ذلك الذي يبدو عبثاً، في استقراء أيضاً لأكثر من أثر، وتتبُّع لأكثر من بورتريه... بورتريه لا يختص بالبشر وحدهم، بل ينسحب على الأشياء، أو تلك التي نظنها أشياء!
«الذين لا يستشهدون بأحد، زهو الحمَام الشمسي، ناصية الخيل، لوحات هلا الخليفة القديمة، جرافيك جبار الغضبان، شعر نساء البشتون، غربة صلاح صلاح المنتجة، رائحة أوراق نبتة الطماطم، الزعتر الجبلي، الجعدا، زهرة الليمون، أن أضع الحلو على المرّ، جميلة التي أحرقت نفسها بحبّ، بثينة العيسى مشروع شجرة أنبياء يقرؤون ويكتبون، صوت سالي مان في صورها، بورتريهات الموتى في صوتها، سفور وجوه ابتسام الصفّار، متعة نورا كيندي في العمل المنهك في حفظ صور المنكوبين، السفن الورقية، غرفة الفندق التي لا يأتيني فيها نوم (...)».
في أثر اللقطة... السرْد
الذاكرة في تكوينها الأول لقطة... تكبر... تتمدَّد لتصبح تفاصيل حياة؛ أو على أقل تقدير، تصبح مشاهد من حياة ينبني عليها ما تم إهماله أو رَكْنه على حساب ما يُعتقد أنه المركز من تلك الحياة، من دون وازع اهتمام أو انتباه وقبض عليه، ليكون في البسط من تلك الحياة.
أن تنهل من أكثر من نبع، فتلك رفاهية تتيح لك أن تكون يقظاً، ومحترف توظيف، وذكياً في اختياراتك مما تم استدعاؤه من تلك الذاكرة. من تجربة العين التي تراقب... تتأمل... تقبض على حركة الحياة، وبتصاعد حساسية تلك العين تجاه ما تفتح الحدقة عليه، قبل أن تفتح العدسة، نحتاج أمام تداعيات السيرة إلى لياقة استثنائية هذه المرة للحاق بتلك التفاصيل، ليس على مستوى اختبارها، والمواءمة بينها فقط، بل على مستوى لياقة العين نفسها. الكلام هنا يقترب من الصورة... أو بمعنى أدق، الكلام هنا يتقمَّص دور الكاميرا... اللقطة. كل لقطة لها حكايتها وزمنها وعواطفها، وحساسيتها، والتي هي في صورة وأخرى تدخل ضمن حكايتنا وزمننا وعواطفنا وحساسيتنا التي نحتاج في كثير من الأحيان إلى من يذكِّرنا بها، أو يستثيرنا لنقارب بين الشبيه لها، والمطابق معها، وأحياناً، غير المألوف مما عرفنا... مما اختبرته ذاكرتنا.
في السرْد الذي اختبره المحروس، وفي تجربة السيرة التي لمع فيها، يصبح التعامل مع تفاصيل سيرته ضرباً من الامتحان الصعب، وليس كما يتخيَّل كثيرون. امتحان صعب بتجاوز التفاصيل كما هي... بالقفز عليها لتكون سيرة الناس قبل أن تكون سيرته. بتلك المقاربات التي ترمي أولاً إلى عدم الانشداد إلى الذاكرة كما هي. ثمة فضاء يتمدَّد في التفاصيل تلك، ولن تكون وفياً لذاكرتك ما لم تتحْ لها مثل ذلك الفضاء.
«خجلُ تلميذ تعبر به أمّه ساحة المدرسة نحو الإدارة، لن يسقط ذلك من سيرته! حصة العلوم، مكنة الجهاز الهضمي الرهيبة، رجفتي الأولى أمام صورة القلب غير الواضحة في كتاب العلوم وقول الأستاذ: هذا هو القلب! تجارب مدرس العلوم علي طه التي لا تنجح فيختمها بعبارة: على كلٍ! موسيقى المهرجان السنويّ، إنّي فضحت عبدالجبار سارق حقائب تلاميذ صفّي الأوّل، مدرس الدِّين الذي صار يدرِّس الموسيقى (...)».
السارد في تأجيل تفاصيله
ليس خياراً بشكل دائم ومقيم، أن يعمد السارد إلى تأجيل تفاصيله. هو خيار من أجل الاستواء والنضج في كثير من الأحيان. كأنه بهكذا وضع لا خيار له. التفاصيل الصغيرة تلك، أو التي تبدو صغيرة، في توظيفها «اللحظي» لا تأتي دافئة وموغلة في الصدق، لأن التقاطها لم يستوِ بعد. بعض ما نهمله على أمل تعهُّده في وقت آخر، قد يذوي... يتلاشى، ولكنه لا يموت. وقد يمنحنا زوايا تناولٍ والتقاط أعمق أحياناً. لا يحدث ذلك كثيراً. بعض تلك التفاصيل تحتاج إلى خميرة الوقت. خميرة الوقت بالنسبة إلى ما نتذكَّره أن نكون أبناء اللحظة التي نتذكَّر فيها، توظيفاً، وربطاً، وانفلاتاً، وما يبدو غير متجانس أحياناً، ولكنه يخلق تجانسه بتلك القدرة على التخيُّل بما يتجاوز المادة الخام... بصمتنا نحن أبناء اللحظة، ونحن نغترف من ذاكرتنا يوم كنا أبناء الأمس، لنرتِّب الكلام كما يجب!
لا يؤجِّل السارد تفاصيله الخاصة إلا إذا شعر بأنه لن يقترف الخيانة كما يجب. الخيانة لتلك الذاكرة التي تولِّد ذاكرة أخرى، فيها من الأولى الكثير، ولا تشبه ما نسرده... نتذكَّره اليوم.
«أحاديث جدتي مع فرَّاشات المدرسة، الجدائل بشرائطها الخضراء، المراييل، الأبّات الخضر والوجه زهرة، ابتسامات تلميذات الصف السادس وجدّة مديرة المدرسة، كلام جدتي كلّما رأت تلميذات السادس يصعدن الدرج: إخذي»!!
الوفاء للذاكرة أحياناً يتحقق بالخروج عليها. هكذا أظن.