تتفاعل مسألة الهوية بما لا يمكن فصله عن التفكك الذي يسري في الكثير من الدول العربية، فلأسباب ثقافية لم تنجح معظم الفئات العربية الحاكمة في التعامل المرن مع شعوبها ومواطنيها، فهي إما اعتادت على العسكرية والصيغ الأمنية، أم على دولة الرفاه القائمة على توزيع نتائج الثروة النفطية بلا تنظيم ومؤسسات ورقابة.
حتماً يوجد استثناءات، لكنها لا تتعدى الأقلية. في هذه الأجواء العربية، تحوّلت التشكيلات الاجتماعية الطائفية والقبلية والجهوية والمناطقية التي كان يعتقد قبل عقد أنها كانت على وشك الانصهار في دولة وطنية، للشك وللغضب تجاه الدولة. ويعزّز الانغلاق في تكتلات اجتماعية خاصة دون الدولة قيام الدول العربية بسن قوانين مانعة للأحزاب ومانعة للتعبير وللإعلام الحر والنقد. هذا الجانب منع المواطنين من التواصل بما يتجاوز الطائفة والفئة والجهة والمنطقة. بل إن تداخل هذه الموانع مع انتشار الفساد وضعف المؤسسات ساهم في كشف الدولة العربية أمام مكونات اجتماعية كبيرة لم تكن مهتمة بالأساس بالعمل السياسي. من هنا وجدت هذه المكونات أكانت قبلية أم طائفية ومناطقية، ميلاً طبيعياً للإحتماء بمكوناتها الخاصة.
وتتكوّن هوية كل إنسان من أبعاد عدة متداخلة ومتفاعلة، فهي مرتبطة بخليط منها الموقع الاقتصادي والخلفية الدينية والثقافية والمنطقة والارتباط العائلي والقبلي أو الإثني (عربي غير عربي) بما في ذلك التعليم ونوعيته. الهوية ليست جواز سفر ولا جنسية وطنية، فهذا جانب منها، لكن الاكتفاء بهذا لا يفسّر الكثير، فوجود هوية سورية وعراقية ويمنية وليبية لم يمنع من التفسخ الكامل والإنحدار إلى الحرب الأهلية. وجود هوية سورية لم يمنع النظام من الفتك بربع مليون سوري. إن نقاش الهوية يتطلب التعامل مع زوايا قلّما نلقي عليها الضوء.
الهوية ليست شيئاً ثابتاً وجامداً، بل حالة متغيرة لا حدود لمداها، فالقبائل والطوائف والجماعات المسالمة المختلفة نجدها فجأةً وقد تداخلت واكتسبت بعداً سياسياً ومعرفياً جديداً بقوتها ودورها ومكانتها في ظل واقع سياسي رسمي يهمّش كل ما هو خارج الدولة من مؤسسات وجماعات. ففي ظروفٍ تتميّز بالتفرقة والأزمات، تتحوّل رابطة القبيلة والدين والمذهب إلى هوية تضامنية، كما وتتحوّل رابطة الإقليم لهوية سياسية تميّز نفسها عن الدولة، بل وحتى رابطة اللون والعرق ورابطة العروبة أو الأمازيغية والكردية ورابطة اللهجة وغيرها من الروابط التي يولد معها الإنسان، بإمكانها أن تتحوّل فجأةً لحالة تضامن كما يقع في طول وعرض العالم العربي. كل هذا بسبب ضعف آليات الدولة العادلة المفرغة من الصيغ السياسية المتطورة.
لقد درس علماء الاجتماع والسياسة والنفس أسباب نشوء الهوية وأسباب تغيّرها وزيادة غضبها وراديكاليتها. وقد وجدوا مثلاً أن شعور أبناء قبيلة أو إقليم وطائفة بأنهم هدف للتمييز من قبل الدولة كافٍ لتحوّلهم نحو العصبية من جهة، ونحو الإنخراط في العمل السياسي المعارض والنقدي من جهة أخرى. وجود إقليم محروم بين أقاليم أكثر استحواذاً على الاقتصاد يخلق مشكلات جمة. هكذا يصبح من الطبيعي أن نجد جسماً رئيسياً من المعارضة مكون من قبائل وطوائف وفئات ومناطق وقعت عليها حالة التمييز والتهميش كما وفقدت الثقة بالمستقبل.
ومن الطبيعي أن يتداخل هذا مع الايديولوجيا السياسية والدينية والإسلامية. العلاقة بين التضامن الفئوي والطائفي والقبلي طردية، في حالات التفاؤل بإصلاح والثقة بإمكانية تغيير القوانين تكون الغلبة للتيارات التي تواجه التمييز والسلبيات من خلال الأطروحات السلمية، لكن في حالات عدم التفاؤل بإمكانية مواجهة التحديات الجديدة وإلغاء التمييز ومواجهة الفساد فمن الطبيعي أن ينتصر التيار العنيف والأكثر غضباً. هنا يقع الفارق بين حركة الشارع في المغرب والتي انتهت بإقرار إصلاحات دستورية لازالت قيد التطور، وبين حركات نتجت عن عنف الأنظمة كالتي نجدها في كل من ليبيا وسورية والعراق واليمن. إن الالتفات لمسألة الهوية وحركيتها أصبح أساسياً، فالعالم العربي لازال سائراً نحو مزيد من التفتت.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 5123 - الخميس 15 سبتمبر 2016م الموافق 13 ذي الحجة 1437هـ