أحتمل أن كثيرين منا قد سمعوا عن ديانة السِّيْخ. وربما سبب معرفتنا عنها هو ما يُميّزها شكلاً. العمامة التي يعتمرونها وإطلاق شَعْر الجسم، من الرأس حتى أخمص القدمين، فضلاً عن سوار اليد (المِعْصَم). ولا بأس هنا لو تحدثنا عن هذه الديانة بشكل مقتضب كي نقطف رأس الفكرة التي نحن بصددها.

الدِّيانة السِيخيَّة ليست قديمة. أقصى نقطة في تاريخها هي القرن الخامس عشر الميلادي عندما أسَّسها الغورو ناناك (1469م - 1539م). كان ناناك شخصاً مشطوراً بين ديانتين: الهندوسية التي تتجذر منها أصوله العائلية، والإسلام الذي أحبّه بحكم احتكاكه بالمسلمين تجارة وصداقة.

دفعه ذلك الأمر لأن يسعى للتوفيق بين الدِّيانتين الهندوسية والإسلام إرضاءً لوضعه الاجتماعي. وقد ساعده على ذلك وجود بوادر سابقه قام بها رجل هندي آخر عاش ما بين العامين 1440م و1518م للجمع بين الدِّيانتين، حيث سمح ذلك الرجل بانتقال العقائد بينهما في تزاوج ديني صوفي.

بعد أن تمّ ذلك التمازج الديني بدأت تتشكل الدّيانة الجديدة وتستقل، وتظهر لها أحكامها وقوانينها وأرضها المقدسة وقيادتها الروحية. فأصبح التوحيد وعدم الإيمان بالوحي ورفض تجسيد الله والإحسان والكدّ في العمل وعدم التسوّل والتأمل الروحي أحد أبرز عقائد السِّيْخ.

كما أصبحت منطقة أمْرِيستار (شمال غرب الهند) أرضاً تاريخية ومهمة للسِّيْخ حيث تضم معبدهم الأشهر هارمندير صاحب، فضلاً عن عموم منطقة البنجاب التي يقطنها 85 في المئة من بين 27 مليون سِيْخِي في العالم. كما بات لهم مجلس أعلى ينظمهم في العالم، يبني مدارسهم وينشر ديانتهم، ويعقد مؤتمرهم السنوي الذي بدأ العمل به في العام 1908م.

لكن وعلى رغم جذور هذه الديانة المشطورة بين الإسلام والهندوسية إلاّ أنها لم تصبح على وِدّ مع الديانتين لاحقاً لأسباب مختلفة.

بدأتُ بهذه «السيرة الذاتية» للدّيانة السِّيخيَّة كي أعرض خبراً تم نشره قبل فترة حول حادثة حصلت في بريطانيا. فقد اعتقلت الشرطة هناك 55 شخصاً وصادرت أسلحة بيضاء كانت في معبد غورداوارا السِّيخِي بمنطقة ليمنغتون بعد توتر رافق زواج عريسين أحدهما سِيْخِي والآخر من ديانة مختلفة.

الأمين العام لمجلس السِّيْخ في المملكة المتحدة (التي تحتضن أزيد من 420 ألفاً من السِّيخ) غورميل سينغ دافع عن المعترضين على ذلك الزواج قائلاً: «في ثقافتنا ليست لدينا مشكلة في الزواج بين عروق مختلفة، لكن العقيدة الدينية تقول إن هذه المراسم بالذات مخصصة لزوجين من السِّيْخ».

الحقيقة، أن هذه الحادثة حرَّكت لدي السؤال ثم التأمُّل في قدرة الدّيانات والمذاهب على التصالح مع الدَّم المختلط. هل يستطيع رجل من ديانة ما أن يتزوَّج امرأة من ديانة أخرى أو العكس؟ هذا التحدي يمكن أن ينسحب على السِّيخِيَّة والهندوسية والبوذية والزرادشتية وغيرها، وتالياً في اليهودية والمسيحية والإسلام، ثم في مذاهب كل دين من الأديان.

هذا سؤال جوهري لمعرفة حقيقة الاستقرار الاجتماعي في الدول. ترى ما الذي يجعل الدماء «الحمراء» تتنافر من «حمرتها» الواحدة، والأجساد «الطينية» تتنافر في طينيتها؟! إنه الانتماء الذي يتحكم في الاندفاع أو الانكفاء. فهو القادر على جعل تلك المعادلة تتبدَّل أو أن تبقى على حالها.

ديانة السِّيْخ نشأتها وتكوُّنها كان ولايزال في الهند، لكن انتقال مجموعة من الناس تنتمي إلى تلك الديانة لتعيش في مجتمع متقدم كالمجتمع البريطاني لم يجعل قناعة الأتباع تتغيّر حتى في الحب والزواج. فلا التحوّل من أسرة سلالية إلى أخرى نووية صغيرة (أب وأم وأولاد) والانتقال من مجتمع زراعي إلى آخر صناعي وتحرر وزيادة قوة المرأة استطاع أن يُزعزع مثل هذا القناعات القوية.

في الهند وعلى رغم أن الطبقة الوسطى المتعلمة والتي تعيش في المدن بدأت تقاوم الأعراف والقيود، وعلى رغم افتخار الهنود طيلة قرون أنهم عاشوا على وهج زواج مختلط بين الإمبراطور المغولي المسلم جلال الدين أكبر والأميرة الهندوسية هيرا كونواري، إلاّ أن الأمر لايزال عصياً أو في حدود ضيقة.

إن معضلة الزواج المختلط هي لا تخص السِّيْخ أو الهندوس فقط، بل وليس المجتمع الهندي حصراً إنما هي مشكلة تسري على أغلب الديانات الموجودة في العالم. ولأن الزواج هو الرباط الأوثق في المجتمعات، وله ظِلال دينية فقد بات صعباً أن تنشأ أسر ذات دماء مختلطة كظاهرة قوية.

قرأت عن الزواج في اليهودية والمسيحية والإسلام وظهر أن الأمور ليست سهلة، على رغم أن التاريخ أخبرنا أن عدد الزيجات المختلطة التي انعقدت في بداية دخول المسلمين إلى إسبانيا بلغ 30 ألف زواج (مسلم يتزوّج مسيحية) وجاء إلينا جيل «المولدين» الذي حمل بعضهم أسماء مسيحية كالأديب أبي جعفر بن عبدالله ابن شانجة، والعالِم الكبير أبي بكر محمد المعروف بابن القوطية، ومحمد بن رُلان وأبوعمر بن البلكايش بن أليان ومحمد البرجون وكلهم علماء كبار.

لكن بطبيعة الحال، اليهودية اليوم (وحتى من قبل) لا تجيز الزواج من أديان أخرى. كذلك مع المسيحية. ففي مجتمع متقدم كالمجتمع الأميركي لا تزيد نسبة زواج البروتستانت من الأديان الأخرى على 4 في المئة. كما لا يسمح الإسلام للمسلمة من الزواج برجل كتابي (يهودي أو مسيحي) لكنه يسمح للمسلم أن يتزوّج كتابيّة.

اليوم المعركة تبدو حقيقية بين بطء تكوين جيل بدماء مختلطة وبين هرولة العالم للدخول في صراع ديني مفتوح. هو بالضبط كالصراع بين سرعة العجلة وكابحها.