«سقف لن يكتسب صفة الأفق»، بهذا العنوان اختار المحرر الثقافي الشاعر والكاتب جعفر الجمري، نشر ثلاثين مقالاً في «الفكر والأدب والسياسة» كانت قد نشرت سابقاً في صحيفة «الوسط» بين الأعوام 2002 و2010.
يتحدث الكاتب في بداية الكتاب عن العلاقة بين المثقف والمؤسسة التي تحاول تدجينه، حيث يتم وضع العراقيل والمحن له ويتم حدّه بسقف المؤسسة والذي لا بد أن يصطدم به رأسه مهما علا، لأنه لا يمكن أن «يكتسب صفة الأفق». فما دامت هناك جُدُرٌ وأسوار وسُقُف فلن تبلغ المحصلات تلك القمة من الرصانة التي لا تتم إلا بعيدًا عن هذه الحواجز. يبدو أن هذا المقال والذي حمل عنوان الكتاب نفسه هو الوحيد الذي لم يسبق له النشر في الصحيفة سابقاً.
بعد ذلك ينتقل الكاتب لنقد لاذع للسياسة الخارجية الأميركية في عدة مقالات، وهو الموضوع الأكثر تكراراً في الكتاب. يخبرنا الكاتب أن أميركا، هذه الدولة العظمى المصابة بظاهرة «نسيان التاريخ» أصبحت من بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول أكثر تدخلاً في شئون الدول الأخرى، بل وصارت تشكك في نوايا الجميع بما فيهم الحلفاء التاريخيين لها وبات الهاجس الأمني هو المسيطر على سياساتها، حتى صارت المدن الغربية غابة من الكاميرات. يشير الكاتب كذلك إلى التناقضات الصارخة بين السياسات الأميركية التي تركض خلف المصالح المتغيّرة بشكل مستمر وبين المبادئ الثابتة المعلنة التي يتم استهلاكها إعلامياً من أجل «كسب القلوب والعقول»، وكذلك التناقضات بين مدنية أميركا في الداخل وبين حروبها وبربريتها في الخارج.
يكتب أيضاً وبأسلوب ساخر عن حجة أميركا في غزو العراق وإدعاءات الرئيس بوش عن حديثه مع الرب، ويصوّر أميركا على أنها «مشيخة القبيلة العالمية»، مؤكداً أهمية إدراك قوة وخطورة الهيمنة الإمبريالية. ويتساءل عن صعود نفوذ الشركات العالمية متعددة الجنسيات في مقابل تقلّص نفوذ الدولة القومية وعن اتفاقية التجارة الحرة، التي يرى أنها مدخل إلى الغزو الاقتصادي الذي هو شكل من أشكال الاجتياح، ولكن دون جيوش. يمر بعد ذلك على الدول العربية التي يرى أن مشروع المواطن فيها لا يمكن أن ينجح مادامت تفكر بطريقة قبلية، ويشبّه هذه الدول بـ «الطائرة التي تريد الإقلاع من دون ركاب ووقود». وأيضاً ينتقد السرقات التي يقوم بها الأقوياء وأصحاب النفوذ في العالم العربي وكيف أن حال الأمة سيصبح أفضل إذا صرفت هذه الأموال في المكان المناسب.
يستشهد الكاتب بالمفكر والأستاذ في جامعة جورج تاون الأميركية هشام شرابي كمثال حي على «محنة المثقف» التي سبق أن تحدث عنها في المقال الأول. امتد الهاجس الأمني الأميركي المتصاعد إلى الجامعات الأميركية، التي هي «آخر القلاع» الصامدة في وجه «العقلية الاستخباراتية»، وما شرابي الذي تعرض لـ «حملة شرسة» بسبب كتاباته المنتقدة للسياسيات الأميركية إلا مثال واحد على هذه الظاهرة غير الأخلاقية.
من بين مواضيع الكتاب، مراجعات لبعض الأفلام كفيلمي «الميل الأخضر» و «كيت كات». في الأول ينتقد الصورة العنصرية النمطية حول السود، أما الثاني فلا يخفي إعجابه بـ «الكوميديا الملونة» التي احتوته. يمر الكاتب أيضاً على بعض الشخصيات الثقافية والأدبية التي لا يخفي إعجابه بها كإدوارد سعيد، محمود درويش، محمد الماغوط، عبدالله حماد، داوود عبدالسيد وغيرهم. يقوم بتحليل أعمالهم بشكل سريع.
هناك أيضاً مقارنة بين معاناة الفلسطينيين والهنود الحمر الذين يشتركون في التهجير من الأرض والوطن، وتحليل لرمزية قصة طرزان وعلاقتها بالنظرة العنصرية التي ترى تفوّق الجنس الأبيض، ومناقشة لظاهرة الإرهاب الإسلامي وبراءة النصوص الدينية منه مع مقاربة تاريخية للموضوع، ومواضيع أخرى لا يسع المجال لذكرها.
يستخدم الكاتب أسلوب السخرية السوداء بكثرة، وكذلك التشبيهات المجازية، وجدتها موفقة في كثير من المواضع. يوحي أسلوب الكتابة في أكثر من مقال بأن روح شاعرٍ تقف خلفه. عموماً، مواضيع الكتاب غير مترابطة، وإن كان موضوع انتقاد السياسات الأميركية هو الأبرز والأكثر تكراراً. نظراً لهذا التنوع وعدم الترابط النسبي بين المواضيع، توقّعت أن يذكر الكاتب سبب اختيار هذه المقالات بالذات من بين أكثر من 400 مقال نشرت له بين 2002 و2010، ولكنه لم يقم بذلك، وظنّي أن الاختيار كان على المقالات التي اكتسبت مواضيعها صفة العمومية بحيث تجاوزت سجن الزمان وصارت صالحة للحاضر وربما المستقبل أيضاً كما كانت صالحة للماضي وقت كتابتها.
غالبية المقالات قصيرة ولا أراها تعطي أياً من المواضيع حقها ولا تشرح خلفياتها بشكل كافٍ، وكأنها مكتوبة لأناس يعرفون الموضوع مسبقاً. لا شك أن السبب في هذا هو القيود الصحافية على حجم المقالات التي لا تسمح لها بالتعمق في القضايا كما نجد في الكتب. أكثر ما ساءني في الكتاب هو التعميمات والاختزالات التي انتقدها إدوار سعيد بشدة في كتابه الشهير «الاستشراق» وصارت ملاحظتي لها أقوى بعد قراءة «خارج الجماعة» لنادر كاظم. عمّم الكاتب عدم الإيمان بالغيبيات على الغرب، واختزله في الفكر التجريبي المادي، دون ذكر للتنوع الغني الموجود فيه والذي لا يخلو منه أي مجتمع إنساني. ما قرصني في هذا التعميم المنتشر - والذي يمارسه كثير من الكتاب أصلاً - هو صدوره من شخص يحترم فكر إدوارد سعيد بالإضافة إلى وروده في المقال نفسه (الميل الأخضر) الذي انتقدت فيه الصورة النمطية المنتشرة في الغرب عن الشرق والجنوب.