منذ سنوات قامت الجهات الرسمية المعنية بشئون التراث والثقافة، وبغض النظر عن مسمياتها التي تختلف من فترة إلى أخرى إلى أن رست على اسم «هيئة البحرين للثقافة والآثار»... أقول قامت هذه الجهات بإعادة بناء وترميم وتأهيل الكثير من البيوت التاريخية والتراثية في كل من المنامة والمحرق مما أعاد الحياة إليها، وأصبحت بالتالي معالم ثقافية وتاريخية وسياحية بارزة للعيان في كلا المدينتين، ومقصداً للزوار والسياح من داخل البحرين وخارجها.
ولاشك أن ذلك الجهد يعيد الاعتبار لمثل هذه المعالم الحضارية وذلك بعد سنوات من الإهمال والاندثار. كما أن ذلك الاجراء إزاء تلك البيوتات يمثل خطوة متميزة في الاتجاه السليم، لكنها – وعلى أهميتها - غير كافية، وذلك لسبب بسيط وهو أن هذه الخطوة لم تشمل كل مناطق البحرين واقتصرت في الغالب على مدينة المحرق بالدرجة الأولى، وتليها المنامة بالدرجة الثانية، أما بقية المناطق فلم يشملها ذلك الاهتمام.
فنحن نعلم أن معظم قرى البحرين مازالت تحتفظ بكثير من المعالم الحضارية والعمرانية الجديرة بالاهتمام والرعاية، وأنا أعرف أن من بين أهالي القرى من اتصل بالجهات الرسمية من أجل ترميم وإعادة تأهيل بعض البيوت التاريخية في بعض القرى؛ لكنه لم يلق التجاوب المطلوب. مع العلم أن المعالم التي في القرى لا تقل أهمية من حيث معناها التاريخي والحضاري عن تلك الموجودة في المدينتين (المنامة والمحرق).
هذا ومع عدم تشكيكنا في حسن نوايا القائمين على التراث والثقافة في هذا البلد، فإننا في الوقت نفسه نشعر بنوع من النخبوية والتمييز فيما بين المناطق فيما يخص التراث الثقافي المعماري لصالح المدينتين من طرف، وإهمال معالم الريف وخصوصاً في جانبها المادي من ناحية أخرى.
إن النظرة إلى التراث المادي وغير المادي يجب أن تكون نظرة واحدة موحدة في مختلف أنحاء البلاد، وتعطى القدر والاهتمام نفسه في كل مكان في القرية والمدينة على حد سواء، فتراثنا واحد، وشعبنا واحد.
وبخصوص المعالم الحضارية (البيوتات والمجالس التاريخية) في القرى، يمكن الإشارة على سبيل المثال، إلى بعض تلك البيوتات في كل من سار والديه والمالكية ودمستان وبني جمرة والدراز والبديع وسترة والحد وسماهيج والدير وجد الحاج والنويدرات وجدحفص وغيرها كثير من القرى .كل هذه القرى فيها من المعالم الحضارية ما يستحق الاهتمام به وإعادة تأهيله ليبقى معلماً من معالم هذا البلد قبل فوات الأوان؛ معلماً تاريخياً وثقافياً وسياحياً يدلل على عراقة تاريخ هذا البلد من جهة، ومقصداً للآخر الذي يرغب في التعرف على ثقافة وحضارة هذا البلد في مختلف مناطقه من جانب آخر.
بطبيعة الحال نحن لا نقلل من جهود هيئة البحرين للثقافة والآثار، لكننا لا نوافقها في هذه النظرة النخبوية في التعامل مع ترميم وتأهيل المعالم التراثية الحضارية. ومن هذا المفهوم لابد لهذه الهيئة أن تعيد النظر في كيفية تعاملها مع معالم القرى والأرياف في البحرين، خاصة أن القرى وبدون استثناء، مليئة بكثير من المعالم السياحية الثقافية وجديرة بالإحياء والتأهيل .
أما السياحة الثقافية أو أي نوع من الأنشطة الثقافية، إذا اقتصرت على مدينتي المحرق والمنامة فإننا نكون بذلك قد اختزلنا تاريخ البحرين الحضاري في هاتين المدينتين فقط، وبالتالي نكون قد وقعنا في النخبوية، وأيضاً نكون بذلك وقعنا في التمييز غير الايجابي بين التراث القروي والتراث المديني، ورفعنا من شأن منطقة وقلّلنا من شأن منطقة أخرى، وهو تمييز لا مبرر له سوى تلك العقلية النخبوية، في حين أنه يجب التعامل مع التراث بشكل موحد وبغض النظر عن تنويعاته ومناطقه، وهذا التباين في التراث فيما بين هنا وهناك إنما يأتي في إطار الوحدة وليس في إطار التفريق التمييزي النخبوي كما هو حاصل الآن، حيث الاهمال من نصيب التراث الريفي والاهتمام المفرط بالتراث المديني.
أما بعد ومن خلال ما سبق، فقد آن الأوان للإهتمام بتراث القرى المعماري على قدم المساواة مع المدينة، وذلك وفق خطة متوازنة تعيد لمعالم القرى التاريخية حضورها الثقافي والاجتماعي والسياحي أسوة بالمدينتين العتيدتين المنامة والمحرق. وأهالي القرى مستعدون للتعاون في هذا الشأن.
أخيراً، إذا كانت المحرق جميلة، وهي جميلة بالفعل، فإنما بما يحيطها من قرى ومعالم قروية، فحولها سماهيج والدير وقلالي والحد وعراد والحالات، وكلها تضفي على المحرق جمالياتها وفيها كثير من المعالم الحضارية/ التاريخية، فلماذا نهمل معالمها؟
والشيء نفسه بالنسبة للمنامة، فهي جميلة بالتأكيد، لكنها أجمل بما يحيطها من قرى، ففيها الجفير والماحوز، وحولها السنابس وكرباباد والبلاد القديم... وهي أحياء وضواحي وقرى فيها معالم حضارية إذا ما اهتممنا بها فإنها ستزيد من جمالية المنامة الشيء الكثير.
أخيراً يتساءل المرء: هل ستعي الجهات المعنية بالثقافة والتراث جدلية العلاقة بين الريف والمدينة في كل شيء، بما في ذلك ما يخص الثقافة والحضارة والتراث والسياحة؟ نأمل ذلك.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي (كاتب بحريني)"العدد 5120 - الإثنين 12 سبتمبر 2016م الموافق 10 ذي الحجة 1437هـ
أستاذ يوسف
لقد ناديت لو أسمعت حياً * ولكن لا حياة لمن تنادي