يعوم العالم الإسلامي، في كثير من مواقعه، على أنهار من الدماء تسيل في شكل يومي، وذلك جرّاء الحروب الطاحنة التي دبّرتها مواقع الاستكبار العالمي، كما في الصومال الذي أضحى فريسة لحرب داخلية تغذّيها الدول المستكبرة، ويتصارع فيها اخوة السلاح، ويدفع فيها المسلمون الأثمان مضاعفة من لحمهم ودمهم وموقعهم السياسي والاستراتيجي.
أما في باكستان، التي تسفك فيها الدماء في التفجيرات الانتحارية، وفي الحرب التي تدور رحاها في وادي سوات، فالمشهد يشبه الكارثة، إذ إن هناك ملايين المشرّدين الذين كانوا ضحية لعبة دولية أرادت لهذا الموقع الإسلامي أن يتحوّل إلى ساحة للفوضى والاهتزاز، تحت عنوان الحرب على الإرهاب، وهي الحرب التي تأكل من أفغانستان المجاورة المزيد من الضحايا الأبرياء، ومئات المدنيين العزل الذين يسقطون تحت نيران الطائرات الأميركية، تارة بحجة الخطأ وطورا باسم ملاحقة الإرهابيين.
وفي العراق، تتوالى الهجمات التي تقوم بها الجهات التكفيرية والتي تستهدف المدنيين، وتقتل المؤمنين حتى في مساجدهم ومواقعهم العبادية، وتستحلّ دماء المسلمين، فيما تتناقص أعداد القتلى في صفوف المحتلّين الأميركيين، وكأن المطلوب هو إرباك الوضع الداخلي في العراق من خلال مجموعات سياسية ترتبط بالنظام البائد، أو مجموعات تكفيرية لا تريد للبلد أن يتعافى وأن يُنجز أهدافه في إخراج المحتل، ووَصْلِ ما انقطع من وحدة داخلية وتشتت سياسي وتمزّق أمني أحرق الأخضر واليابس، وكاد أن يطيح بآمال العراقيين في تحقيق الاستقلال وصون الوحدة وحماية الاستقرار.
إن العالم الإسلامي يرزح تحت نير الاستكبار العالمي الذي يريد لمواقعه الاستراتيجية أن تتساقط تحت هراوة الاحتلال، أو أن تلتهمها نيران التطرّف والتقاتل الداخلي، بما يجعل الأمة تنشغل بهمومها الداخلية، وتضعف أمام مشاكلها، فتسلّم الأمر للجزّار الدولي الذي لم يتخلَّ عن مشاريعه التقسيمية والتمزيقية، والذي يريد للمسلمين والعرب أن يختاروا بين فوضى عارمة تجتاح مواقعهم، وتطبيع كامل مع العدوّ يقودهم في نهاية المطاف إلى التسليم بشروطه والرضوخ لإملاءاته.
ولعل المشهد الفلسطيني يمثل الصورة الأبرز في رهانات العدو والدول المستكبرة على إحداث فتنة داخلية تتسع دائرتها ولا تنتهي فصولا في استهداف فصائل المقاومة، بما يدفع إلى تحضير الساحة وتهيئتها لاستقبال المشاريع والطروحات الوافدة، بحجة أن الوضع في الداخل لا يساعد على الاستمرار في المواجهة، وأن العرب من حول الفلسطينيين قد فوَّضوا واشنطن وإدارتها الجديدة المضيّ قدما في ترتيب التسوية التي يأتي المبعوث الأميركي ليرسم معالمها عبر دولة إسرائيلية يهودية - كما يقول - ودولة فلسطينية لا يعرف الفلسطينيون لونها ولا طعمها ولا رائحتها، وخصوصا أن الكلام يدور على تجميد الاستيطان لا تفكيك المستوطنات، وعن «التزام أميركي لا يتزحزح بالأمن الإسرائيلي»، وعن احتلال يبقى ولا يطالب أحد بإنهائه، وعن خريطة طريق قد تتحوّل إلى خريطة طريق إسرائيلية بالكامل.
إننا نريد للعالم الإسلامي، وخصوصا للجهات الطليعية فيه، ولمرجعياته الدينية وفئاته المثقفة والواعية، وفصائله المجاهدة والمقاوِمة، أن ينخرط في مشروع الوحدة الداخلية والوحدة الإسلامية، ليواجه الهجمة الدولية الضاغطة والهجمات التفكيرية المتواصلة، وليرسم خطا بيانيا واضحا في مواجهة المحتلين، والعاملين لتخريب البلاد الإسلامية من الداخل، وليرتفع الصوت واحدا ضد كل الحركات العُنْفية التي تستحلّ دماء المسلمين والأبرياء، وضد كل العاملين لإغراق العالم الإسلامي في أتون من الفتنة المذهبية تحُول بينه وبين تحقيق أهدافه، في إخراج المحتلين من بلاده، وإرساء قواعد الوحدة الداخلية على أسس وطنية سليمة، ووفق شروط شرعية حكيمة.
إننا نريد للعالم الإسلامي والعربي أن يصحو من كبوته، وأن ينطلق في ورشة الحوار الداخلي بين أحزابه وفئاته ومكوّناته السياسية والمذهبية، قبل أن يستجيب لدعوات الآخرين إلى الحوار، لأن الجهات الدولية لا تطلب الحوار إلا خدمة لمصالحها، ولأن الحوار الداخلي بين أجنحة الأمة، وخصوصا بين السنّة والشيعة، هو أولى من كل أنواع الحوار، ويمثل أولوية فكرية وسياسية ودينية غير قابلة للجدال، ولا يمكن الاستغناء عنها بحالٍ من الأحوال.
كما ندعو الأحزاب والحركات الإسلامية إلى أن ترتفع في أدائها وخطابها وحركتها إلى مستوى المصلحة الإسلامية العليا، والمستقبل الإسلامي الكبير، ليكون للإسلام دوره الفاعل ليس في المنطقة العربية والإسلامية فحسب، بل على مستوى العالم كله، وليكون الخروج من شرك التفاصيل المحلية، ومن الاستغراق في الهوامش الداخلية، سبيلا من سبل الارتقاء بقضايا الأمة الكبرى إلى الأفق الكبير والمستقبل الواعد.
وفي جانب آخر، فإننا عندما نتطلّع إلى ما يجري في الجمهورية الإسلامية في إيران مع انطلاق حملة الانتخابات، وخصوصا في المناظرات الإعلامية والسياسية المباشرة التي يبرز فيها المرشحون بصورتهم الواضحة تماما أمام الناس، والتي يتعرّض فيها هذا المرشح أو ذاك الحاكم للمحاسبة والمساءلة بطريقة وأخرى، نستشعر من خلال ذلك قوة الدولة وانفتاحها، ورحابة الإسلام في نظرته للحاكم وللآخرين، من خلال هذه التجربة التي نريد لها أن تتأصّل في الخط الإسلامي، على الرغم مما قد يشوبها من سلبيات لا تؤثِّر في الخط الاستراتيجي العام لحركة الثورة، وانطلاقة الدولة.
أما لبنان، الذي تجاوز مرحلة الانتخابات النيابية بسلام، فهو بحاجة إلى ترميم يتجاوز الخطاب السياسي المتشنّج، وإلى إصلاح من الداخل، من الذات المذهبية والطائفية والحزبية.
لقد دلّلت الانتخابات النيابية على وجود حافزية عليا للاستنفار المذهبي على أكثر من صعيد، وأبرزت وجها عصبيا هنا، يقابله وجه عصبي هناك، وجاء الخطاب السياسي المتشنّج، والسلوك المذهبي المتحفّز، ليصب الزيت على النار، وليضع الطوائف والمذاهب أمام اختيارات جديدة، تركت بصماتها في أكثر من مكان، وإنْ لم تصل المسألة إلى مستوى الاهتزاز الميداني، إلا أنها طاولت العمق فيما هي الحساسيات والتوترات والتعقيدات.
ولعل ما يبعث على الكثير من الارتياح أن الخطاب السياسي عاد إلى مستويات مهمة من الهدوء، فترك آثارا إيجابية من خلال بعض المواقف المؤكِدة على التوافق والمشاركة وعدم استبعاد أحد... ولكننا نعتقد أن الوضع يحتاج إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وخصوصا في الدائرة الإسلامية، وعلى الأخص بين المسلمين السنّة والشيعة، لأن الضرورة الإسلامية والوطنية تستدعي حركة مركّزة على مستوى المرجعيات والشخصيات الدينية الفاعلة، لجَسر الهوة من خلال لقاءات شعبية ومناطقية، تعمل على إعادة اللحمة إلى هذه الساحة التي تمثل الضمانة الأساسية لاستقرار لبنان وازدهاره، وتسعى لتغيير واقع الاهتزاز الذي خلق توترات نفسية وتشنّجات سياسية، ينبغي أن يسعى الجميع لتغييرها، وسنعمل من موقعنا الشرعي لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم بما يُساهم في حماية الوحدة الوطنية، والتفاعل مع القضايا الكبرى التي تتصل بالوطن والأمة.
إننا نقول للبنانيين: إن العدوّ قد حسم أمره وقرر أن الانتخابات النيابية لم تجعل من لبنان ساحة اطمئنان له، كما قرر أن يواصل تجاربه واستعداداته العسكرية التي يحاكي فيها هجوما واسعا على لبنان والمنطقة، فعلى اللبنانيين أن يحسموا أمرهم في الاستعداد المتواصل لمنع العدوّ، الذي يملك قرار الحرب والسلم، ويملك التغطية الدولية للقيام بمغامرات إجرامية جديدة، من أن يحقق ما يصبو له أو من القيام بعدوان جديد ضد لبنان.
إننا في الوقت الذي نرحب بالمواقف الأخيرة التي أكدت ضرورة التعاون والمشاركة وحماية السلم الأهلي في الداخل، ندعو إلى التفاف وطني حول المقاومة والجيش لقطع الطريق على العدوّ، الذي بات عليه أن يعرف أن لا سبيل أمامه لاختراق وحدة اللبنانيين بعد الانتخابات كما كانت المسألة قبلها.
إننا نؤكد أن على الفعاليات السياسية أن تحدد الآليات التي يمكن من خلالها إخراج البلد من مآزقه المتعددة، ولا تكتفي بالمفردات والعناوين التي استهلكتها الطبقة السياسية بين مرحلة وأخرى، فالناس تسأل: كيف السبيل لإخراج البلد من متاهات المديونية، وكيف السبيل لبناء الدولة القوية العادلة القادرة على مواجهة أي عدوان إسرائيلي، وكيف يمكن التأسيس لدولة المواطنة على حساب دولة المذاهب التي تكرّسها الممارسات السياسية والخطابات التهويلية... إننا نتطلّع إلى حركة في الأرض، لا إلى عناوين تتطاير في الهواء.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2472 - الجمعة 12 يونيو 2009م الموافق 18 جمادى الآخرة 1430هـ