كيف قرأت الإدارة الأميركية نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية؟ هناك توجهات مختلفة بعضها بدأ قبل يوم من الاقتراع وبعضها جاء بعد يوم من الانتهاء من عمليات فرز الأصوات. بداية وجهت واشنطن أشارات واضحة بشأن الحكومة وبرنامج عملها والتشكيلة الوزارية واشترطت أن تكون التركيبة السياسية متوافقة مع القرارات الدولية حتى تستأنف مشروعات الدعم الاقتصادي وتعزيز قدرات أجهزة الأمن. وقبل أن يبدأ الاقتراع توجه نائب الرئيس الأميركي جوبايدن إلى بيروت واجتمع مع الرئيس اللبناني ميشال سليمان مؤكدا دعم الإدارة لمركز الرئاسة وقيادة الجيش. وخلال اللقاء اتصل الرئيس باراك أوباما بالرئيس اللبناني مجددا التزام الولايات المتحدة بأمن لبنان وسيادته واستقلاله مؤكدا رفض أميركا التفريط به أو طرحه ورقة للمساومة أو التفاوض.
كل هذه التصرفات حصلت قبل يوم الاقتراع وكانت واضحة في إشاراتها فهي دلت على وجود مخاوف من انهيار السلطة النيابية وتغيرها ما استدعى التأكيد على دعم سلطة موازية تتمثل بالرئاسة والجيش.
بعد الانتخابات وحصول مفاجأة 14 آذار توجه مباشرة إلى بيروت وزير المواصلات الأميركي (اللبناني الأصل) راي لحود وقابل الرئيس سليمان وجدد له تأكيد واشنطن التزامها بالمسألة اللبنانية وعدم التفريط بها. إلا أن المهم في زيارة لحود كان تصريحه الخطير بشأن الانتخابات حين أشار بما معناه إلى «أن لبنان سيساهم في تغيير معادلات إقليمية».
كلام لحود كبير ومبالغ به ولكن يمكن الاستفادة منه للتعرف على مقاصده ومحاولة قراءة صورة «الشرق الأوسط» بناء على دلالات نتائج الانتخابات اللبنانية ولماذا كانت الولايات المتحدة تراهن عليها أو على الأقل تنتظرها حتى تحدد الخطوات الدبلوماسية التي تعتزم اتخاذها لاحقا.
كلام الوزير لحود يؤشر إلى أن واشنطن كانت تنتظر الانتخابات حتى تحدد في ضوء نتائجها سلوكها الدبلوماسي في المرحلة المقبلة. وعندما ظهرت النتائج اعتبرت أن الصورة اللبنانية أرسلت أشارة تترسم في تضاعيفها السياسية وتضاريسها السكانية خريطة توازن القوى الإقليمية. فالنتائج بحسب القراءة الأميركية أضعفت نسبيا المحور الإيراني - السوري وكشفت أهمية دور المواقع الإقليمية المنافسة مضافا إليها أنها ألقت إضاءة على زوايا غامضة في مسرح «الشرق الأوسط».
الاحتمالات التي توقعها الوزير الأميركي مبالغ فيها، ولكنها تعطي فكرة موجزة تشرح لماذا جمدت واشنطن اتصالاتها الدبلوماسية أو على الأقل أجلتها بانتظار ما ستسفر عنه الانتخابات من نتائج. وهذا ما بدأ يتضح بعد إعلان مفاجأة 14 آذار. فالكلام الذي قاله الوزير الأميركي عن تغيير في المعادلة الإقليمية ليس عبثا ولم يصدر في لحظة غير واعية.
بعد الانتخابات بدأت تتمظهر تلك الصورة الإقليمية اعتمادا على النتائج. وهناك ثلاث خطوات يمكن ملاحظتها أخذت تتحرك فورا بعد الإعلان عن فرز الأصوات في 8 يونيو/ حزيران الجاري.
أولا، على المستوى اللبناني بدأ التركيز على دبلوماسية القوة أو قوة الدبلوماسية في الضغط على حكومة تل أبيب لاقناعها بالانسحاب من الأراضي اللبنانية المحتلة (قرية الغجر، تلال كفرشوبا، مزارع شبعا).
ثانيا، على المستوى الفلسطيني صدر الكلام الإيجابي عن رئيس حكومة غزة إسماعيل هينة تعليقا على نتائج الانتخابات واحترام إرادة الشعب اللبناني. بعد ذلك سارع رئيس المكتب السياسي خالد مشعل إلى زيارة القاهرة ولقاء الوزير عمر سليمان بهدف تنشيط الحوار الوطني الفلسطيني مع فتح.
وترافقت زيارة مشعل القادم من دمشق مع معلومات تشير إلى مواقف جديدة ستعلن عنها حماس من جهة إبداء استعدادها للاعتراف بحل الدولتين وعدم معارضتها لمشروع مبادرة السلام العربية على أساس القرارات الدولية والانسحاب إلى حدود 1967. ويرجح المطلعون أنه في حال تأكدت المعلومات ستتجه حماس نحو التفاهم مع فتح والاتفاق على إعادة تشكيل السلطة الفلسطينية وتأليف حكومة وحدة وطنية.
ثالثا، على المستوى السوري اتضحت الأمور بأن دمشق متجهة نحو التفاوض الدبلوماسي العلني مع واشنطن. فقبل الانتخابات اللبنانية اتصلت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون من القاهرة بوزير الخارجية السوري وليد المعلم وأبلغته قرار واشنطن إرسال المبعوث جورج ميتشل إلى دمشق برفقة وفد عسكري للتفاوض على ملفات مختلفة. وبعد إعلان نتائج الانتخابات تأكد رسميا أن واشنطن بدأت بفتح الباب الدبلوماسي للحوار مع دمشق حين أدرجت سورية على قائمة الدول التي سيزورها ميتشل في جولته المكوكية على المنطقة.
الانتظار الأميركي للتعرف على نتائج الانتخابات مسألة واردة وليست مختلقة أو مبالغ فيها في اعتبار أن واشنطن كانت تريد الاطلاع على مدى صحة المعلومات التي وصلت الإدارة وأشارت إلى احتمال فوز 8 آذار بغالبية ساحقة. ويرجح أنها اتخذت قرار الانتظار وفضلت تأجيل اتصالاتها الدبلوماسية حتى لا تتورط في قرارات خاطئة تأسست على معلومات غير دقيقة بشأن توجهاتها الإقليمية المقبلة.
حصول تبدل في نتائج التوقعات ساهم كما يبدو في تعديل الصورة استنادا إلى تبلور مزاج سياسي لبناني يعكس إلى حد معين خريطة المنطقة وصورة التوازن الإقليمي. وبناء على هذه المحصلة التي أفرزتها صناديق الاقتراع اتخذت واشنطن مجموعة خطوات دبلوماسية تقوم على فكرة إعادة التموضع في الاتصالات الإقليمية انطلاقا من مقاييس الأحجام ونسبة الأوزان.
في ضوء التحركات التي شهدتها المنطقة بعد 8 يونيو يمكن فهم معنى كلام الوزير الأميركي لحود بشأن مساهمة لبنان في تغيير معادلات إقليمية. الورقة اللبنانية صغيرة الحجم ولكنها مهمة رمزيا. ولهذه الأسباب يمكن أن تقرأ واشنطن تفصيلاتها في إطار دبلوماسي يعطي دمشق بعض النفوذ في لبنان ولكن على قدر نسبة النتائج ومن دون التفريط بالسيادة والحرية والاستقلال. فالتسوية كما كررت أوروبا وأميركا وروسيا لن تكون هذه المرة على حساب لبنان كما حصل في العام 1976. والتسوية المراد تأسيسها على قاعدة حل الدولتين ستلعب سورية فيها دور الشراكة وبالتعاون مع مصر والسعودية. وبناء على هذه الاحتمالات يمكن فهم تحسن العلاقات وتطورها بين الرياض ودمشق ومسارعة مشعل بالذهاب إلى القاهرة ناقلا رسالة بشأن التفاهم مع فتح على إعادة إنتاج السلطة السياسية تحت سقف مبادرة السلام العربية.
الآن تبدو واشنطن في موقع الانتظار ثانية. فأميركا تنتظر حصول مفاجأة رئاسية في إيران. وفي حال صح التوقع ستدخل المنطقة في فضاء دولي جديد يمكن أن يؤدي إلى صوغ خريطة تحالفات في «الشرق الأوسط» تلعب إيران فيها دور الشريك الإقليمي في إطار مظلة تضم مصر والسعودية وتركيا وسورية تتحرك تحت سقف من التعهدات الدولية يعطي ضمانات بعدم تعرض مشروع طهران النووي السلمي إلى ضربة عسكرية.
هناك خطوات مهمة حصلت في ضوء النتائج النيابية اللبنانية. سورية والسعودية تتجهان نحو التوافق على الملف اللبناني. مصر وسورية والسعودية تدفع باتجاه التفاهم على الملف الفلسطيني.
يبقى الملف الإيراني وامتداداته الإقليمية. هذا الأمر يتطلب إشارة من طهران. والإشارة مرتبطة بتلك النتائج التي ستسفر عنها الانتخابات الرئاسية. فهل تحصل مفاجأة لبنانية في إيران؟ هذا احتمال غير مستبعد، ويمكن انتظار الجمعة (أمس) للتعرف على صورة الرئيس وبعدها نستطيع الحكم على مسار المنطقة وتوجهاتها في المرحلة المقبلة.
@ المقال كلمة ألقيت في جمعية «وعد» البحرينية مساء الأربعاء الماضي
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2472 - الجمعة 12 يونيو 2009م الموافق 18 جمادى الآخرة 1430هـ