في نهاية مقالنا السابق المنشور تحت عنوان: « اليسار العربي بعد ربع قرن من الانهيار» أشرنا إلى أنَّ المراجعات النقدية التي قامت بها الأحزاب اليساريَّة العربيَّة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي اتسم الكثير منها بالشجاعة والجرأة، سواء المتعلق منها بأسباب فشل التجربة السوفياتية التي استمرت ثلاثة أرباع القرن، أم التي تتعلق بمسيرات هذه الأحزاب النضالية نفسها منذ انطلاقاتها، وما اعتور تلك المسيرات من أخطاء وكبوات، وخصوصاً منذ بدايات انحسار اليسار العربي منذ مطلع الربع الأخير من القرن الماضي، وهو الانحسار الذي تضاعف بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن وعلى رغم ما تميزت به تلك الجرأة النقدية في المراجعات الفكرية من جرأة فإن قوى اليسار مازال حالها يراوح مكانه من حيث ضعف نفوذها في الحياة السياسية وتقلص نفوذها وقواعدها الجماهيرية، إن لم تكن تسير نحو الأسوأ كما هو الحال لدى معظم القوى اليسارية على اختلاف انتماءاتها السياسية الماركسية - اللينينية والقومية، وفي عدادها بالطبع تنظيمات اليسار البحريني الثلاثة أو ما باتت تفضل أن يُطلق عليها «جمعيات التيار الديمقراطي».
والسؤال هنا: لماذا لم تتمكن قوى اليسار العربي من النهوض من عثرتها على رغم مرور هذه الفترة الطويلة، وعلى رغم تمكنها من تشخيص أسباب تراجعها؟
لعلَّ السبب بكل بساطة يعود إلى أنها تمكنت من وضع يدها على الداء وشخَّصت الأمراض بدقة، لكنها عجزت عن أن تتعافى عمليّاً على أرض الواقع من تلك الأمراض المزمنة واقتلاعها من سياساتها ومسلكياتها في حياتها الحزبية والسياسية، بحيث إن المواريث السياسية المزمنة تحولت إلى نزعات قوية عجزت قوى اليسار عن التخلص منها ممارسةً، وإن أدانتها وانتقدتها على الصعيد النظري الفكري، وغلب الطبع التطبع.
ولنا أن نأخذ على سبيل المثال عاملين من العوامل التي تناولهما غالبية الكتّاب والقادة والمفكرين اليساريين، وتحديداً الماركسيين منهم في كتاباتهم، ألا هما العاملان الديمقراطي والديني وهما اُعتبرا من أسباب سقوط الاتحاد السوفياتي وتراجع اليسار العربي على السواء، فهل لمسنا في هذا السياق تصحيحاً أو ترجمة لتلك المراجعات التنظيرية على صعيد الممارسة وأرض الواقع؟
للأسف في كلا العاملين لا نكاد نلمس تغييراً يُذكر من هذا القبيل، إلا النزر اليسير في أحسن الحالات افتراضاً، فلو تناولنا العامل الديمقراطي فإن غياب الممارسة وقواعد العمل الديمقراطي في الحياة الداخلية لهذه الأحزاب مازال هو الطابع الطاغي على عمل هذه الأحزاب من حيث غلبة تركز طابع التفرد في اتخاذ القرارات، وخاصة المهمة والمصيرية في يد الأمين العام والمكتب السياسي، أو شلة محسوبة عليه من أعضاء المكتب، زد على ذلك تغييب النقد الذاتي الجريء، وعدم رجوع الأمين العام إلى المكتب السياسي، أو عدم رجوع كليهما إلى منظمات الحزب القيادية الوسيطة كاللجنة المركزية، والأهم من ذلك عدم الرجوع إلى أعلى سلطة في الحزب ممثلةً في المؤتمر العام، وإشراكه في القرارات المهمة والمصيرية؛ بل واستمرار إيجاد ذرائع لتعطيل انتظام عقد دوراته، ويمكننا أن ندخل في عداد ذلك نشوء الشلليات والصراعات بين أعضاء قيادات الكثير من الأحزاب الشيوعية واليسارية على التفرد بقيادة الحزب، وعدم تقبل الرأي الآخر الجريء الصريح، سواءً على صعيد الممارسة اليومية في مختلف مؤسسات وأجهزة الحزب، أم في صحافته ومختلف وسائله الإعلامية حيث يغلب على كلا المستويين اللون الواحد والصوت الواحد الأقوى، وتهميش إن لم يكن اقصاء وطرد أصحاب الصوت الثاني المخالف.
أما إذا أتينا إلى العامل الديني فالحال مماثل للعامل الديمقراطي، فلايزال الوضع كما كان عليه من طغيان وروح التعالي على الثقافة الشعبية بجوانبها الدينية لدى أوسع القواعد الجماهيرية العريضة، ومازال تدني التواصل مع مناسباتها الدينية هي السمة الغالبة، متناقضةً بذلك مع المبادئ والغايات التي تسعى إليها في نضالاتها، فهي تريد من جهة التواجد في أوساط الجماهير، وخاصة الطبقات الفقيرة والعمال والكادحين، لنشر أفكارها في صفوفها والرفع من مستوى وعيها السياسي من جهة، وهي في نفس الوقت تتعالى على الثقافة الدينية والشعبية لهذه الشريحة العريضة من الجماهير، ولا تريد التواصل معها في هذه المناسبات الجماهيرية الشعبية، وكأنها بذلك تبتغي جماهير جاهزة معبأة بالفكر اليساري الاشتراكي مقدماً من جهة أخرى. ومن نماذج هذا التعالي نفورها الشديد من ذكر «البسملة» وإن تراجعت في السنوات الأخيرة من ذلك على استحياء، ونبذ الاشارة إلى الرموز الدينية الكبيرة في الدين والتاريخ الإسلامي معطوفةً بألقابها المُبجلة في مطلق الأحوال، حتى لو كان والد ووالدة العضو الحزبي والبسطاء من أفراد حيه أو منطقته الشعبية يفعلون ذلك على مدار ساعات اليوم، على رغم أن هؤلاء الرموز الدينية كانوا ثواراً ورموز التغيير في عصرهم، في حين لا ينسى الإنسان اليساري أن يقرن أي رمز تاريخي من تياره الفكري بالتبجيل المعروف من نحو «الرفيق المناضل العظيم» أو «المفكر الاستثنائي» وهلم جرا. وربما تكون القوى والأحزاب القومية أقل وقوعاً في هذا العامل الديني، بحكم مرجعياتها الفكرية التي وإن اقتبست من النظرية الماركسية الكثير من الأفكار في مرجعياتها وفي تنظيماتها وتجاربها في الحكم إلا أنها تمسكت باحترامها للدين ورفض الجانب الديالكتيكي المادي فيه، وصاغت ما يُعرف بـ «اشتراكيات عربية خاصة بها»، في حين عجزت الاحزاب اليسارية، وخاصة الشيوعية الموالية إلى الاتحاد السوفياتي، عن إيجاد صيغ فكرية للاشتراكية تتلاءم مع الخصائص والسمات الاجتماعية والطبقية لمجتمعاتها ولو استناداً إلى مرجعياتها الماركسية، بل اعتمدت وانساقت انسياقاً مطلقاً خلف التنظيرات الجاهزة المُصممة من قِبل موظفي الجهاز البيروقراطي للدولة السوفياتية ومعاهدها ومؤسساتها التنظيرية من مُنظري حزبها الشيوعي الحاكم، والمؤتمرين بقرارات قيادة الحزب والدولة بحسب مصالح هذه الأخيرة على الساحة الدولية وسياساتها الخارجية ورؤاهم الضيقة لأوضاع بلدان حلفائهم الأحزاب الشيوعية العالمية، حتى لو جاءت في حالات كثيرة متصادمة مع مصالح هذه الأحزاب، كما أثبتت التجربة التاريخية طوال الحقبة السوفياتية منذ نشوئها.
ولئن كانت قوى اليسار العربي الماركسية والقومية لعبت على السواء أدواراً تاريخية مشهودة في حركة التحرر الوطني داخل أقطارها، وأضحت أحزاباً جماهيرية بفضل هذه الأدوار تحديداً، فإنها غدت منذ بضعة عقود مضت، بعد استكمال مهام التحرر من الاحتلال والاستعمار الأجنبي في مرحلة مختلفة تماماً، تستوجب اجراء مراجعة أكثر تأصيلاً وجذرية من سابقاتها لإعادة النظر في شعاراتها وبرامجها السابقة وخاصة في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتجارب الأنظمة القومية، بحيث تتمكن هذه المراجعات الجديدة المنشودة من وضع آليات فعلية لدمقرطة الحياة السياسية داخل أحزابها، وللتخلص من التعالي النخبوي على المعتقدات الدينية وأشكال الثقافة الشعبية الجماهيرية الأخرى، ولا سيما من قِبل الاحزاب الماركسية تحديداً، وبدون ذلك فإن حالها مرشح إلى أن يسير من سيئ إلى أسوأ، وستظل كما هي حالياً احزاباً نخبوية ضيقة، معظمهم من ذوي الخمسينات في أعمارهم فما فوق، بكل معنى للكلمة، ولا تمتلك سوى التغني والتسلي بإحياء حفلات وندوات أمجادها النضالية الغابرة.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5117 - الجمعة 09 سبتمبر 2016م الموافق 07 ذي الحجة 1437هـ
سؤال الى الكاتب
النقد نهج مطلوب بيد ان ما يسجله الكاتب لا يرتقي الى مستوى النقد البناء والمفيد ويفهم بانه يرمي بحجارة الغضب على التيار الذي كان حتى مرحلة قريبة جزء منه، وذلك يطرح سؤال لماذ لم يقدم الكاتب ما سجله من نقد مباشرة الى قيادة التيار اذا كان الهدف هو التصحيح.؟ ام أنه يجد غير قادر في تقديم ما يفيد حيث ما يسجله لا يتعدى حدود الانشاء.؟ وفي الحقيقة ما يقدمه الكاتب يفهم بانه رسالة غزل متعددة الاوجه فاتها القطار ولا نرى أن تجد آذان صاغية.
مع تقديرنا للكاتب
أساس الحكم هو كيفية جمع الأموال و أحداث تغيير فى تنمية الموارد المالية و زيادتها و هذا لم تتحدث عنه لا التيارات اليسارية و لا الأسلامية
مجرد سؤال
منذ خمسة أعوام ولم أجد من أحد إجابة شافية ! " كيف ولماذا حدث انشقاق ( ذو بعد طائفي بيّن ) في أول التنظيمات اليسارية في البلاد بل والخليج العربي وأحدث جرحاً لم يندمل بعد ! فهل من مجيب لي ؟
اهم ما ذكره الاخ رضي هو عمل مراجعة نقدية داخل التنظيمات اليسارية تصيغ رؤية تتماشى مع واقع الساحة بعيداً عن شعارات الماضي التي انتهت لكن من خلال قراءة بعض التعليقات يتضح ان بعض القراء فهموا الامر بالمقلوب! فالحديث عن الابتعاد عن التظيمات(الطائفية) - الاسلامية هو كلام فيه الكثير من التعالي و اللاواقعية فاذا كانت هناك مشتركات مع اي تنظيم فلا ضير في التحالف معه لتحقيق مطالب تتماشى مع ما يريده اليسار من بناء وطن حر و شعب سعيد و وطن للحرية و الوحدة و العدالة الاجتماعية
الكثير من الشخصيات فقدت الاهتمام بالعمل السياسي بسبب ضعف الأداء والمواقف الغير مدروسه لتيارات اليسار فليس فيهم من يقرأ ويتابع ويطور ، يعيشون على الفعل ورد الفعل ، لا توجد خطة للعمل السياسي والتحالفات والشراكة المجتمعية وتربية الكادر والنقد الذاتي واللجان الداخلية أصبحت غير فاعلة ومشلولة وسيطرت الشللية وسياسية المؤمرات الإسقاطية وأصبحوا يتدافعون على مناصب حزبية لا يستحقونها (وتخب عليهم) وليس لديهم إصدارات اقتصادية ودراسات علمية ، والله خسارة ذلك التاريخ الناصع والذي حلاوته ذابت في البحر.
عندما تبدأ التشكيل يكون عدد المدعوين قبل عقد او اكثر بالمئات والآن تلتفت لترى عشرين متقاعدا يحضرون الفعاليات فهل هذه النتيجة لا تقرع الأجراس للقيادات اليسارية للبحث عن الأسباب وترميمها؟ لو كانت شركة خاصة لأعلنت افلاسها . فيجب ان يجلس اليسار بكل توجهاته ليجيب على سؤال لينين ؛ مالعمل؟
مع الأسف الأحزاب اليسارية تعاني من البؤس والعزلة لان الأفكار العلمانية تحتاج لشعوب تهضمها ، وبناء الكادر السياسي الحزبي من اصعب الممارسات الأيدلوجية ، وبدل التحدث عن الامجاد في الجلسات الليلية يجب التوحد والتوافق على برنامج وطني مستقل وانتخابات تستبدل الرؤوس التي عفا عليها الزمن وتخلق بقيادات دينامكية وتملك الاستقلالية وتؤمن بالديمقراطية وبناء مجتمع مدني يفصل الدين عن الدولة. فاليسار لا يلبي طموحات القواعد وأصبحت اجتماعاتهم لاتزيد عن عدد الاصابع.
يجب تغيير التركيبة التي شاخت في العمل السياسي وتنطلق برؤى جديدة ومنهج مستقل بمؤتمر وطني تستبعد منه جميع الأحزاب ذات التركيبة الطائفية ووقف الحديث بالوكالة من كوادرهم للدفاع عن الاسلام السياسي وحماقته .
اليسار هو الخط الثالث الذي يستطيع ان يملك مخارج للازمات السياسية كونه تيار غير طائفي ولكن الاصطفاف اللفظي والعقلي للطائفة لبعض كوادره حطم الموقف المستقل ، هم بحاجة لمؤتمر عام وموحد تضع فيه التصورات المستقلة وتتغير فيه خارطة التحالفات وتقف بالمرصاد للأحزاب ذات التشكيل الطائفي وتنأى بنفسها عنهم. وتضع خطة وطنية وخطوات للشراكة ودعم المشروع الاصلاحي بحزم وتعمل على التركيز في العمل الجماهيري وتدرس متطلبات الجيل الحالي وحاجاته وتشارك في دعم المجلس الأعلى ومراكز الشباب وتضع خطة خمسية للعمل .
الأحزاب اليسارية تملك كوادر فكرية مدربه وعناصر قيادية ونقابية ولكن البعض منها رجع الى المربع الاول في الاصطفاف الفكري السياسي الذي نشأ عليه وأصبحوا دميه تتقاذفهم التيارات الدينية وفقدوا شخصيتهم الفكرية والاستقلالية السياسية ، وليس لديهم خطة مستقبلية وقصر نظر في التحالفات والتبعية بحكم انتمائهم الجغرافي، وأصبحنا لا نفرق بين حديث الاسلام السياسي واليساري واندمجوا في سيمفونية واحدة. وتراهم يطالبون بالديمقراطية ويفتقدونها في الممارسة الداخلية الحزبية. يجب تحسين الأداء والمراجعة.