سُئل شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري قُبيْل وفاته بشأن ذكرياته عن منطقة الجولان السورية المحتلة التي زارها في أيام شبابه، فكان ردُّهُ صادمًا إذ قال: «ليتني لم أزرها أبدًا»!
نقع - أو ربما نُحلِّق - في حبّ مدينةٍ ما، حبّاً يترك كلماتٍ كالـ«حنين » أو الـ«عشق» أو الـ«الشوق» أو الـ«توق» بلا معنىً! حباً جارفًا عابرًا للحدود... حباً مُوجعًا حين نتذكّر أن لتلك المدينة جغرافيتها الخاصة، وجوّها، وناسها، وشوارعها، وأفراحها، وأتراحها.
ويزداد الوجع حين نصطدم بعدم قدرتنا على زيارتها مُجدّداً، أو في القريب العاجل، لإطفاء حريق الوجد، ونار الحنين المستعرة في صدورنا، حتى لنتمنى لو أننا لم نزرها ولم نعرفها أبدًا.
وليس بعيدًا عن الجواهري الكبير وعن جنة جولانه المفقودة، أتلقى أخبار دمشق التي أحب، فينتابني ذلك الشعور نفسه، ليتني لم أزركِ يا دمشق، ليتني لم أتمشَّ حول أسوار الجامع الأموي، ليتني لم أتسوَّق في سوق الحميدية، ليتني لم أتذوق عصير السوس أو مرطبات بكداش!
دمشق، السحر، المدينة الشاعرة، الأوزة المدللة ببياضها، باقةُ الفُل المتدلية من شرفة قاسيون، ياسمينة العالم التي تطل برائحة الأصالة والسحر والشعر.
زرتُ دمشق طفلة لا يتجاوز عمري العشرة أعوام، وتكرّرت زياراتي لها في كل عام بعد ذلك، لسبعة أعوام متتالية أبقى بين أحضانها شهراً كاملاً في كل صيف. ثم زرتها شاعرة مشاركة في مهرجاناتها الشعرية، وفي كل مرة أشم عبق نسيمها أشعر بأن حباً في القلب يُولد من جديد لها وهو الذي لا يموت.
وحين نصاب بالحنين لمكان ما، نحن لا نقصد بالضرورة الإسفلت والأسمنت والعشب والتربة والهواء. حين نصاب بهذا الحنين، فذلك يعني أننا ممسوسون بحنين لكل ذلك، إضافة إلى الحنين للصحبة التي رافقتنا، للحال التي كنا عليها، للوجع عند الرحيل الأول عن هذا المكان أو ذاك. للفرح عند استكشاف كل رقعة به، للالتفاتة الأولى لضوء مصباح الطريق، وانعكاسه على نوافذ المنازل أو نظارات المارة أو عيون مرافقينا في جولة بين الأزقة.
ماذا يعني أن ترتدي مدينةٌ روح بشر؟ أن تكون بقلبٍ وعينٍ وشَعر وحضنٍ وصوت؟
ماذا يعني أن تتجسّد صورة وجه أمي - حفظها الله - قبل أن تزوره خطوط الزمن المُرّ، كلما تذكّرتُ شرفة تفوح بعبق الياسمين الدمشقي؟
أن أبتسم وأنا أتبادل ذكرى دمشق مع حبيبٍ تمنيت لو سمح لي الزمن بزيارتها معه قبل الفراق؟
أن أسمع صوت طفلي - رعاه الله - عبر الهاتف، وهو يضحك خوفاً من خطواته الأولى التي خطاها في وطني، بينما كنتُ بضيافة فندق الشام الكبير قبل إكمال عامه الأول، كلما تراءى لي جبل قاسيون عبر صورة أو خيال؟
أن أسمع صوت صديق وهو يلقي شعراً، كلما مرّ من أمامي طيف الطريق إلى المسجد الأموي؟
هو الحنين لكل شبرٍ على أرضها، والحنين لكل وجهٍ مرّ معي بها، والحنين لكل صوتٍ سمعته فيها، والأهم من كل هذا: الحنين لزمنٍ أتمنى لو يعود، فنعود لها محمّلين بأشواقنا وذكرياتنا وما تبقى من براءة يُراد لها أن تموت.
كم أتمنى لو أنني لم أزر دمشق التي في خاطري كي لا أحمل ثقل كل هذا الحنين!
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 5117 - الجمعة 09 سبتمبر 2016م الموافق 07 ذي الحجة 1437هـ
ستعود دمشق الي أهلها لاكن لن يعود الدكتاتور بشار
ان شاء الله تعود سوريا اختي الكاتبة بعد أن يزيل الله هذا الطاغوت المجرم عن رقاب الشعب السوري المظلوم الصابر المشرد المكلوم.
فعﻻ ليتني لم أزورها الشام و الﻻذقيه الساحليه الجميله وحلب و ريف دمشق لي احلى اﻻيام قضيتها ايام التسعينيات ليتها تعود يا شام .
ستعود دمشق وتهرب اغراب الموت الناعقة ويعود السياح والزوار وتعود السيدة زينب كعبة للقاصدين... فسلام على دمشق بما حوت تحت ترابها من أجساد خالدة أبد الدهر... ودع الناعقون يجرون اذيال الهزيمة
هذا المقال أثار أشجاني... شكرا لاستاذتنا الكبيرة.
تنهدي بشئ يسير اختي الفاضله ومايختلج في صدركي اعظم انها بلاد الشام الشماء العظيمه
ان شاء الله قريبا الكل يزورها بعد ان تتخلص من الطاغية
مقال مدهش ينضح بالجمال والحنين والمشاعر شكرا لك استاذة على هذه اللغة وهذا الاحساس
سوريا ليس فيها نفط ولا ذهب لكنها بلد الجمال والطبيعة والعلم والتعايش احتضنت اللاجئين من كل الملل كان أجمل مافيها أمان بالليل وأمان بالنهار .. من لم يزرها لافرق عنده كيف كانت وماذا صارت .
تحصل علي نفس الشعور عندما تكون في بغداد
وحشتني سوريا بكل ما فيها .....رائحة الخضرة وحركة الشوارع وجمال منطق اهلها و السيدة زينب عليها السلام هي ما يزيد حنيني لسوريا
من لايستطيع زيارة دمشق فعليه بزيارة شقيقتها بغداد فهي شقيقتها وتوأمتها
الرد على الزاءر 3
فإنني لن أزيد ولو بحرف واحد على ما قلته
فلكل منا روحا مدفونة في أرضها .نظل نحن
باشتياق إلى زيارتها . حبيبتي يا سويا..!
رفيقة درب لدمشق ، و لكل شبر نابض بالجمال عروبة و شعرا . رقيقة في بثك ما يختلج به فؤادك ، رقراق ما ينهمر من خاطرك من كلام .