العدد 5117 - الجمعة 09 سبتمبر 2016م الموافق 07 ذي الحجة 1437هـ

حكاية قطة

كان يقود سيارته على شارع الملك فيصل، مشغولاً بعراك أطفاله المشاكسين، يجاهد لأن يسكتهم ويلجم غضب الابن الشقي الذي ما انفك يؤذي إخوته تارة بالضرب والرفسات المؤلمة وتارة بالعبارات الجارحة. كان الأب مشوشاً منزعجاً من تصرفات هؤلاء الصبية الموجعة للرأس في الوقت الذي أخذت الأم تستحثهم على الهدوء والأدب. وفجأة قفز أمامه قط أسود متوسط الحجم بدا مضطرباً ضالاً طريقه ويبدو أن نور السيارة القوي المسلّط على وجهه أعشاه وأفقده القدرة على الرؤية فانطلق مرتعباً تجاه السيارة. حاول تفاديه وكافح للضغط على الكابح إلا أن السيارات المسرعة خلفه منعته من التوقف فباءت محاولته بالفشل ووقع المحذور حيث أحس بارتطام القط بالعجلات وسمع صوت الضربة وسقوط القط في منتصف الشارع. انتابه حزن عميق وشعر بالانقباض ونظر من مرآة السيارة كي يطمئن على إصابته فوجده ملقى على ظهره يتلوى من الألم. فكّر في أن يتوقف ويسرع لنجدته لكن سيل السيارات المندفعة كالصواريخ لم يعطه الفرصة كما لم يكن هناك موقف جانبي يمكنه أن يركن السيارة فيه.

أصابه الارتباك وأحس بالتشاؤم الممزوج بالأسى والأسف لفعلته وقرر العودة إلى نفس الموقع بعد الوصول إلى الدوّار. حاولت زوجته تخفيف ما حدث حينما رأته على تلك الحالة فقالت: لا تجزع، فلا أعتقد أنه أصيب بمكروه وربما شاهده أحد السواق فهب لنجدته، وأغلب الظن أنه نهض وقام من مكانه. لم يكترث لكلامها وصمم على العودة لكن صراخ الأطفال وهياجهم جعله أكثر توتراً. قاد السيارة بسرعة وقلبه مسكون بالألم يتصارعه الشعور بالذنب ولما وصل إلى المكان السابق لمح القط مرمياً على الحافة والدم ينزف من فمه وعنقه. تغلب الرجل على مشاعره وسيطر على أعصابه وأوقف السيارة جهة اليمين بعد أن أشعل مصابيح الخطر. ترجل بسرعة وحمل القط بين يديه وسارع بوضعه في صندوق السيارة. رجع إلى الداخل وتحرك بأقصى سرعة ثم التفت إلى زوجته وقال: علينا أن نأخذه إلى أقرب طبيب بيطري.

كان الوقت حينها يفوق السابعة مساءً وكانا غير متأكدين من وجود عيادة بيطرية مفتوحة في ذلك الوقت، لكنه غامر وانطلق باتجاه العيادة المعروفة على شارع البديع. كان مسرعاً جداً، سرعته تجاوزت السرعة المسموح بها وكان همّه الوحيد أن يصل قبل فوات الأوان. نبهته زوجته إلى خطورة ما يفعل لكنه نهرها قائلاً إن الحالة الطارئة التي لديه تستدعي ذلك. لمح من بعيد نخلة فارعة الطول ساقطة على يمين الشارع ومعترضة جزءاً منه. كانت ميتة، سعفاتها يابسة، أليافها صفراء، طلعها ضامر، جذعها ميت، جذورها منزوعة من التراب، يكسوها الملح والجفاف. لكن الرجل غض بصره وواصل السير.

استبشروا خيراً حينما شاهدوا أنوار العيادة مضاءة وبابها مشرعاً فتوقفوا وبادر هو بحمل القط فتلوثت يداه بالدم لكنه لم يهتم وسارع إلى غرفة العلاج. لكن الفرحة لم تكتمل إذ أخبره الموظف أن الطبيب غادر العيادة في مهمة عاجلة وعليهم الانتظار. كان القط ينزف وكان يرى في عينيه عبارات التوسل والشعور بالعرفان رغم الألم الذي يعانيه. دقق فيه قليلاً وتأمل جسمه فعرف أنه قطة وليس قطاً، فتخيل أن لديها قططاً صغاراً بانتظارها وأنها عبرت الشارع كي تسعى لطلب الطعام لها أو بالأحرى لكي تتزود بالطعام لإرضاعها لكن ربما أيضاً أتعبها الصغار بمشاكلها وشقاوتها فهربت تأخذ قيلولة بعيداً عنها. تأمل في جرحها فوجده غير عميق وتأكد أن بإمكان الطبيب علاجه. لكن الدم مازال ينزف والوقت يجري ومصير القطة بين يديه. حينها قرر أن ينقلها إلى المستشفى علّهم ينقذونها وفعلاّ أخذها بين يديه ثانية ومشى إلى السيارة ووضعها في الصندوق (كان يود أن يضعها معهم في الداخل لكنه خشي رهبة الأطفال). خارج العيادة استوقف نظره عربة يجرها حمار بائس فوق ظهره صبي يكيل له الضربات القاسية من الأمام والخلف بالأنبوب المطاطي الأسود الذي في يده والحمار يلهث بقوة من شدة الإعياء والألم.

انطلق بأقصى سرعة وكان الأولاد واجمين، بدت عليهم أمارات الحيرة والتململ وبعد مضي بضع دقائق وصل إلى مركز النعيم الصحي. هرع بالقطة إلى غرفة المعالجة والتمس من إحدى الممرضات معاينتها. استغربت الممرضة من طلبه لكنها بادرت بالعلاج وقامت بتنظيف موضع الجرح فيما ذهبت زميلتها لاستدعاء الطبيب. جاء الطبيب على عجل وفحص القطة ثم أمر برش سائل مسكن على الجرح كي يوقف خروج الدم وأعطاها إبرة مهدئة. بعد ذلك تم تضميد الرأس عقب تقديم العلاج المناسب وطلب منه الطبيب إحضار القطة بعد يومين لاستكمال العلاج.

شكر الطبيب وحمد الله على نجاحه شخصياً في إنقاذ حياتها وشعر أنه أصلح غلطته ولو جزئياً وغادر المستشفى مبتهجاً بعد أن توقفت القطة عن المواء المؤلم.

في موقف السيارات شاهد منظراً عكّر عليه بهجته وبدّل من حالته، رأي سيدة بحرينية تكيل الصفعات لخادمتها وترغمها على دخول السيارة وهي تقذفها بأبشع الشتائم. ود أن يتدخل ليمنع ما يجري لكنه تذكّر أن ذلك ليس من حقه.

في الطريق إلى البيت ساد السيارة صمت رهيب لفترة وجيزة، بعدها قال أحد الأولاد: أبي، الأفضل عدم استبقاء القطة ويكفي أن نرجعها إلى المكان الذي التقطناها منه.

استشاط الأب غضباً ونهر ابنه: هذا أقل شيء يمكن أن نفعله لها. أليس في قلبك رحمة؟

صمت الولد ولم ينبس بأي شيء، وواصل الأب السير، لكن ما أن وصلوا إلى مدخل البيت وباشروا بفتح الصندوق حتى قفزت القطة وأخذت تعدو مسرعة بعيداً عن الأنظار.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 2:25 ص

      رائعة جدا تسلم اناملك.

    • زائر 2 | 10:24 م

      nice story

      قصة رائعة والتسلسل الصوري للواقعة كأنه واقع ممزوج بشيء من الخيال بالنسبة لي أقيمها 8 من 10

    • زائر 1 | 9:58 م

      عجيبه القصه حدها عجبتني حتى قلتها لزوجي بس هي واقعيه لو جذيه قصه مو واقعيه

اقرأ ايضاً