موضوع «الانترنت» أصبح موضوعاً مطروحاً بقوةٍ في الكثير من بلدان العالم، وعلى الأخص في بلدان منشئه العلمي والتكنولوجي. من أهم الجوانب التي تشغل بال الكثيرين موضوع تركّز الهيمنة على شبكاته ومعلوماته واستعمالاته في يد أقليةٍ من الشركات والأفراد، مما مكّن تلك الأقلية من جني ثروات هائلة زادتها قوةً ومكانةً في حياة كل العالم.
من هنا يطلق البعض على تلك الظاهرة «رأسمالية الإنترنت»، لتضاف إلى قائمة طويلة من أنواع الرأسماليات التي تنتمي جميعها إلى أمٍّ واحدة: الرأسمالية العولمية المتوحشة. فهناك رأسمالية الكوارث، ورأسمالية جيوش المرتزقة، ورأسمالية الإعلام... إلخ، والحبل على الجرّار.
الجانب الآخر الذي يشغل بال الكثير من الجهات هو موضوع التنامي في جمع أكبر وأشمل المعلومات عن الأفراد المستعملين لشبكات الانترنت، بما فيها أدقّ التفاصيل الشخصية، لبيعها بأثمان باهظة للمؤسسات التجارية الكبرى، أو جعلها متاحةً لسلطات وشبكات الأمن والتجسّس والحكومات. والمقلق هو أن الشركات التي تقوم بذلك الجمع للمعلومات تقوم بالجمع دون أخذ موافقة الأفراد أو رضاهم، الأمر الذي يعرّض البعض للإبتزاز أو التشهير أو كشف الأسرار الخاصة.
فإذا أضيف إلى ذلك أن بعض الاستعمالات الخاطئة للإنترنت قد ساهمت في خلق النزاعات العرقية والدينية والثقافية، وفي زيادة البطالة في بعض الأماكن، وفي ازدياد الهوّة بين الغنى الفاحش السريع والفقر المدقع، وفي تنامي ظهور قوى العنف والإرهاب المجنون، وفي خلق اقتصاد استهلاكي عبثي لا يقف عند حدود... إذا أضفنا كل ذلك ندرك أسباب القلق الذي يرفعه بقوةٍ، بعض الكتاب والمفكرين والسياسيين في الآونة الأخيرة.
لنذكّر فقط بوصف الرئيس الأميركي لشبكات الانترنت بأن جموحها وعنفوانها يماثل الجموح الذي أصاب الغرب الأميركي في الماضي بحثاً عن الثروة والمعارك العبثية والاعتداء على الأبرياء، أو بالاهتمام المتنامي في البرلمان الأوروبي لوضع ضوابط حقوقية واقتصادية لضبط جنوح وسلبيات حقل الإنترنت وطمع وسرقات وتلاعب مالكي شبكاته، وعلى الأخص الأميركيين منهم.
لنعد إلى أرض واقعنا العربي ونسأل: هل أن المجتمعات العربية تواجه نفس الظواهر بالنسبة لحقل الإنترنت وشبكاته وبعض استعمالاته السلبية المضرّة؟ الجواب المؤكّد هو نعم. بل هناك ظواهر سلبية أخرى خاصة بنا تتعلق بمقدار الحرية المتوفرة، وشدّة القمع الأمني لبعض مستعملي الشبكات من الناشطين السياسيين، والهرج والمرج الطائفي الحقير أو الثقافي المتخلّف، والهوس بالانغماس المريض في عالم الانترنت على حساب الكثير من جوانب الحياة المهمة المتعلقة بالأفراد، وبالمجتمعات أيضاً.
في بلدان الغرب يجري حراك كبير متعاظم للإصلاح وضبط حقل الانترنت من قبل الحكومات والبرلمانات ومؤسسات المجتمع المدني. يجري الحراك أساساً لمنع احتكار ذلك الحقل الذي يمسّ حياة البلايين من البشر، ومنع احتكاره من قبل مجموعة صغيرة مغامرة متحكّمة من الشركات والأفراد، ولمنع أيضاً أن يصبح هذا الحقل مجالاً لتعاظم الثروات، وبالتالي النفوذ والتحكم في المعرفة والمعلومات، في أيادٍ قليلة. وهناك الآن حديثٌ عن حقوق الإنسان الأنترنتية، وعن حماية سمعة الإنسان، وعن معاقبة من يسيئون استعمال حرية هذا الحقل واتساع انتشاره.
موضوع التأثيرات السلبية للإنترنت على المجتمعات العربية يحتاج إلى أن يدرس من قبل مراكز البحوث المختلفة. وحتى ذلك الحين لا يحتاج الإنسان إلا لأن يراجع السَفَه والبلاءات والصراعات الطائفية والقبلية التي يتداولها الناس عبر مختلف شبكات التواصل العربية حتى يدرك بأن العرب يحتاجون إلى جهات تدخل الإصلاح مسار هذا الحقل.
مرةً أخرى لا يمكن إصلاح مشاكل هذا الحقل إلا من خلال قوى السياسة ومؤسساتها، الحكومات والبرلمانات والقضاء من جهة، ومؤسسات المجتمع المدني من جهة أخرى. فإذا كانت السياسة فاسدة أو عاجزة فإن الإصلاح سيكون متعثراً.
ستكون مأساة للعرب وللعالم لو أن حقلاً كان يحمل أعظم الآمال لتحسين حياة البشر السياسية والاقتصادية والثقافية سُمح له أن يقع في أيادي قلّةٍ من الطامعين والفاسدين، مثل بعض شركات الشبكات أو بعض الأفراد المهيمنين على استعمالات الشبكات أو بعض أجهزة الأمن والاستخبارات التجسسية والباطشة والمعادية للحريات. ياللإنسان... كم يبني وكم يدمّر.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 5116 - الخميس 08 سبتمبر 2016م الموافق 06 ذي الحجة 1437هـ
إذا لم تتغير العقليات المتخلفه لن يتغير شيء
حلقة مفرغة ندور فيها يا دكتور.