في الأنظمة غير القمعية، جدارة المعارضة هي في إدراكها لوازن السياسة. أن تُجيد البقاء (في الداخل) كمُكوّن ينشط في حدود الإطار الناظم لها وللحكم والمجتمع والحقوق، وتُجيد التمثّل (في الخارج) بعضلة وطنية متماسكة لا تفرقها عن النظام السياسي القائم أمام الخصم المشترك.
في يوليو/ تموز من العام 1940 وقفت حكومة الظّل المُعارضة مع ونستون تشرشل ضد العدوان النازي على لندن. ووقف الحزب الجمهوري المُعارض مع إدارة فرانكلين روزفلت في وجه التهديد الهتلري ضد الولايات المتحدة في الحرب الكونية الثانية.
وفي التاريخ القريب وقف الديمقراطيون مع إدارة الجمهوريين خلال أزمة الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول. بل ووقف حزبا العمل والليكود مع كاديما في حرب لبنان (تمّوز 2006) والعدوان على غزّة (في ديسمبر/ كانون الأول 2008 - يناير/ كانون الثاني 2009).
في إيران لم يحصل هذا الأمر عندما هبّ مير حسين موسوي ومهدي كروبي ومن خلفهم جُموع الإصلاحيين بوجه النظام. لقد كان ذلك السقوط في الجدارة السياسية هو ما دفع بالكثير في الداخل الإيراني لأن يُخرجوا موسوي من الخيمة.
هنا لا أريد المناجزة بالديماغوجيا. غاية الأمر أن تُفهم حركة موسوي جيدا بالتساؤل. هل من المعقول أن هذا الرجل الذي كان (ولا يزال) يتدثّر بتاريخه التنفيذي لم يستطع أن يفصل خياراته في الداخل عن خيارات الخارج أو على أقلّ تقدير أن يُمايزها؟!
هل كان موسوي عاجزا لأن يردّ على تصريحات باراك أوباما بشأن أحداث إيران عندما قال «إن الاحتجاجات دليل على توق الإيرانيين وسعيهم الدؤوب إلى العدالة وعلى شجاعتهم في وجه الوحشية، وموسوي جسد آمال الإيرانيين الذي يرغبون بالانفتاح على الغرب»؟!
هل كان موسوي عاجزا عن الرد على المستشارة الألمانية عندما دعت «إلى إعادة فرز الأصوات في الانتخابات الرئاسية» وكأنها عضو في المعارضة الإيرانية؟! أو عن فتح سفارات غربية أبوابها لتلقّي جرحى المتظاهرين في سابقة دبلوماسية خطيرة؟!
الغريب في الأمر أن موسوي أخرج مطالبه من السكّة القانونية والمعقولة إلى أخرى من دون ملامح عندما أَلانَ النظام له جانبه. وكانت تلك بداية افتراق منهجية أعادت أسهم تخوينه لدى المتشددين إلى أعلى مستوى.
حين طَعَنَ موسوي في نتائج الانتخابات دعاه مجلس صيانة الدستور لتقديم الطعون ولم يفعل إلاّ في الساعتين الأخيرتين من المهلة القانونية التي يُتيحها المجلس. وبعد تمديد تلك المهلة بأمر من المُرشد، طالب بتشكيل لجنة تجمع فيها أطياف تضم مناشط مختلفة.
واستجاب مجلس صيانة الدستور وشُكّلت لجنة ضمت دري نجف آبادي ممثلا للقضاء، وحسن أبو ترابي وحدّاد عادل ممثليْن عن المحافظين التقليديين والتعميريين، ورحيميان وولايتي ممثليْن عن المرشد، ومحمد رضا تابش رئيس الكتلة النيابية للإصلاحيين ومحمد رضا خباز عضو الكتلة الإصلاحية ورئيس المقر الانتخابي لمهدي كروبي كممثليْن عن الإصلاحيين.
ثم رَفَعَ من سقف شروطه، عندما طلب من مجلس صيانة الدستور «تحديد عدد الأوراق الانتخابية المطبوعة ووضع العدد الفائض عن الحاجة منها وكذلك النصف الثاني من أوراق الاقتراع تحت تصرف اللجنة الخاصة لغرض مطابقتها مع مركز المعلومات السكانية في إيران»، فوافق مجلس الصيانة على ذلك أيضا.
ثم رفع موسوي سقف المطالب مرة أخرى عندما طالب بإعادة «فرز الأصوات في ثلث صناديق الاقتراع المتنقلة أو عشرين في المئة من صناديق الاقتراع الثابتة يتم اختيارها بشكل عشوائي بالإضافة إلى إعادة فرز الأصوات في بعض المحافظات مثل يزد ومازندران» فوافق مجلس صيانة الدستور على ذلك أيضا، إلاّ أن موسوي عاد وطالب بإلغاء الانتخابات.
الغريب أنه وفي طور هذا التصعيد في الخطاب والمطالب من قِبَل موسوي كان يُحاكيه خطاب غربي تصعيدي دون أن يكون من الأول موقف من ذلك لكي لا يدّعي أحد عليه بشيء. وهو تلازم كلّفه وسيُكلّفه الكثير رغم ما يُشيعه من خدمات قدّمها للثورة.
هنا أتذكّر مقولة أسبانية كتبها روائي بارع عندما قال «لا قيمة للأيام المجيدة التي يعيشها المرء من دون أن يكون قادرا على تذكرها لكي يتجدّد عبرها ويتغذى منها ويتمكّن من البقاء بفضلها».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2500 - الجمعة 10 يوليو 2009م الموافق 17 رجب 1430هـ