أخذني الاهتمام بما وقع في تركيا لمدينة إسطنبول، قضيت فيها أياما مع من يعرفون المدينة ومثقفيها. إذ تعيش تركيا صدمة الانقلاب الذي كاد أن يعيدها للحكم العسكري، ففكرة أن الرئيس المدني المنتخب ديمقراطيا بتنافس حزبي شفاف كان على وشك أن يقتل في انقلاب دموي تقلق الأتراك. كان نجاح الانقلاب سيفرض على تركيا التخلي عن مصالحها بعد أن خطت سياسة مستقلة تجاه الغرب وأوروبا نتجت عن مأزق سابق لبروز أردوغان والعدالة والتنمية. لقد اكتشفت تركيا منذ زمن طويل أنها مهما سعت نحو أوروبا ستبقى جزءا من كتلة إنسانية إسلامية كبيرة لا يقبلها الغرب الأوروبي. ويعي الأتراك بأن التقسيم في الإقليم واستمرار الحروب سيفتح الباب لإثارة قضايا في بنيانها ووحدتها كالقضية الكردية الشائكة.
ويعلمون بنفس الوقت بأن مراكز القوة العالمية ليست مكترثة لوضع المنطقة بدليل ما حدث لسورية والعراق.
ومن أجل ضمان المستقبل يعمل الأتراك بحزم على إنهاء الدولة العميقة التي يمكن التحكم بها من الخارج، وذلك لصالح التيارات المنتخبة شعبيا والتي تمثل الأغلبية المطلقة. ففي السنوات القليلة الماضية كانت السياسة التركية التي يمارسها الجيش متصادمة مع الحكومة. وجود فئات «أقلوية» ضمن الدولة غير منتخبة ولا تملك برنامجا علنيا ولا تساءل (حركة غولان والجيش) ولا تخضع للسياسات التي يقررها التحالف الحكومي المنتخب، وتسيطر في الجيش والقضاء والبيروقراطية، وتسعى للانقضاض على الحكم دون الاشتراك في اللعبة السياسية، هو جوهر الصراع التركي الحالي. معارضو أردوغان من الكماليين والجمهوريين والقوميين أيدوا إجراءات اردوغان الأخيرة. كما قال لي احد المحللين: «نعمل ليل نهار في حملة انتخابية وبرنامج يصوت عليه الشعب، ثم يأتي جنرال وغولاني على دبابة وبلا أدنى حملة تجاه الشعب ليقفز على السلطة ويأخذها أينما يريد. لن نسمح بهذا».
رغم كل شيء، لم تتحول تركيا لدولة بوليسية كما في العالم العربي. رغم إغلاق قنوات غولان وصحفه ومؤسساته وجامعاته والتحقيقات المستمرة إلا ان الصوت المعارض لكل التيارات الأساسية المشاركة في الحياة السياسية وتلفزاتها وصحفها ومواقعها، بالإضافة لفصل السلطات، تسمح بالتوازن. فالمعارضة تنتقد أردوغان كما تنتقد الحزب الحاكم، لكنها بنفس الوقت تتضامن معه في مواجهة الدولة العميقة. هذا الوضع دفع لإطلاق سراح الكثير من الموجات الأولى من المعتقلين.
لقد غير الانقلاب تركيا وهذا يفسر عمليتها العسكرية في سورية. إنها في الطريق لتصفية داعش في مناطق الشمال ولاحتواء القوة الكردية المسماة «قوات سورية الديمقراطية»، المؤلفة من مجموعات كردية وبعضها عربية والمدعومة أميركيا والتي لها علاقات أيضا مع نظام الاسد. تركيا في الطريق الشاق لبناء منطقة عازلة داعمة للمعارضة السورية المستقلة المتواجهة مع النظام كأحرار الشام والجيش الحر وغيرهما. لقد جاء الهجوم التركي بعد حسم تبعية الجيش للسياسيين، لكنه بنفس الوقت فاجأ الولايات المتحدة، وخاصة أن تركيا دولة ناتو وهي الآن تقاتل قوات تدعمها الولايات المتحدة. الواضح للأتراك ان الولايات المتحدة لا تكترث لنتائج دعمها لقوات سورية الديمقراطية على تركيا والقضية السورية برمتها. تركيا سائرة باتجاه حلب، وقد شكل التفاهم مع روسيا فرصة لتحييدها النسبي. لقد أصبحت الآن تركيا الأكثر استقلالية عن الغرب والشرق في قلب الحرب السورية.
الأتراك من مدارس مختلفة يحملون هما تركيا. بعض الصحافيات المعروفات بتحررهن الفكري كن في طليعة التجمعات ضد الانقلاب. وفق إحداهن «اردوغان لم يعد رئيسا ينتمي للإسلاميين ولحزب العدالة والتنمية بل ينتمي للأمة التركية وتاريخها وحضارتها». لقد دفع الانقلاب بمجموعات هامة من الرأي العام التركي ممن تمثل كتلا كبيرة معلمنة وتمارس نسبة قليلة من فروض الإسلام والتي تعرف بنقدها لسياسات أردوغان لأن تلتف حوله بصفته الأقدر على حماية مصالح تركيا ومواجهة مسئوليات في الإقليم العربي المفتت. تركيا ستقلع أشواكها بيدها، لكنها ستحافظ بنفس الوقت على توازنات ديمقراطية تعزز تضامنها الداخلي وارتقاء تجربتها السياسية الشعبية، وهذا جديد ما بعد الانقلاب.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 5115 - الأربعاء 07 سبتمبر 2016م الموافق 05 ذي الحجة 1437هـ
وعد مني: المقال شجعني علي السفر الي تركيا. نظرا لمعرفتي في فهم اللغة التركية و التفاهم بها، سأعود لأكتب مقالا بعد لقائي بعامة الناس و أفراد العوائل التي أعتقلت عائلها أو فصلت و حرمت من الرزق لكي أسجل معاناتهم أو سعادتهم و مدى تماسكهم بالأمة التركية و الحب و الوفاء للحكومة و رئيسها و مدى كرههم للإنتقام و الاهتمام ببقاء هذه الأمة متماسكة حول حكومتها و مؤمنة بالعقيدة وغارقة في العدل و الإنصاف و تعيش فى زهو النزاهة و الإيمان.