في العام 2002 كنت أحاضر لطلبة الدراسات العليا في كلية الهندسة في موضوع نظرية الليزر. هذا الموضوع من المواضيع النظرية الشائكة وذلك لاعتماده على فيزياء الكم. لقد أشبع هذا الموضوع دراسة وبحثا منذ عشرينيات القرن الماضي ولحد الوقت الحاضر. وكثيرا ما أحاول في محاضراتي أن أقدم عرضا تاريخيا مرتبطا بالتطور الرياضي للصيغ العلمية لتبيان التطور الذي يتم إدخاله على الصيغ الرياضية المعتمدة وسبب هذا الإدخال أو التحديث. لقد كان الموضوع دسما وثقيلا مليئا بالصيغ الرياضية وأسماء العلماء الذين اكتشفوها.
بعد أن انتهيت من إحدى محاضراتي وكانت المحاضرة حافلة بالكثير من الاشتقاقات النظرية وبالكثير من مساهمات العلماء من دول مختلفة والذين ساهموا في إغناء ذلك الاشتقاق الرياضي. تعرضت لسيل من أسئلة الطلبة المعهودة والخاصة بالموضوع ولكن كان السؤال الأخير مختلفا عن باقي التساؤلات. جاءني من طالبة تهتم بالجوانب الفكرية، قالت هبة: «لقد عرفنا أن هذه المعادلة الرياضية تعرضت لتعديلات مختلفة وساهم في هذا التعديل علماء كثيرون». أجبتها نعم وهذا ما لا يعرفه إلا المتخصصون أصحاب العلاقة. قالت «إن كل الأسماء التي طرحت لا تحتوي اسما عربيا أو إسلاميا واحدا ونحن أصحاب الحضارة؟ فأين نحن؟» لم اندهش لتساؤل هبة لأنها كانت محبة للإطلاع. لقد كنت صريحا مع هبة «ليس لنا مشاركة في النشاط العلمي المعاصر!» دون أن أتطرق لتفاصيل أكثر لا يحتملها وقت المحاضرة.
لقد كان ذلك ما قبل حرب 2003 وأيام المد القومي في العراق. لقد كانت هناك ثقافة مركزية تمجد التاريخ العربي القديم وفي ذات الوقت ترفع الشعارات لمستقبل يعود فيه العرب إلى مجدهم السابق (على رغم تراجع العراق وقت ذاك عن دول المنطقة). ولكن لم يكن هناك شيء يذكر عن الفرق الزمني ما بين الماضي التليد البعيد جدا والحاضر المُجهد. لم يكن هناك تساؤل لماذا أصبحنا هكذا؟ ما هي المشكلة؟ الإجابة الرسمية العربية على ذلك هي أن الاستعمار والصهيونية هما سبب المشكلة. على ذلك كان علي أن أجيب هبة أن الاستعمار والصهيونية العالمية هما سبب مأساة العرب والمسلمين وانقطاعهم عن الحضارة الإنسانية ولكن لم أتطرق لهذا الموضوع.
حتى وقت ذاك كنت مهتما بالإضافة لتخصصي العلمي بفلسفة العلوم لعلاقتها باهتمامي العلمي، ولكن هذا التساؤل دفعني إلى محاولة لدراسة تاريخ العلوم عند العرب والمسلمين وعلى أساس كمي إحصائي ومقارنة نتائج بحثي بتاريخ العلوم في الغرب.
ماذا وجدتُ في بحثي؟ لقد تكونت حضارتنا الزاهرة في 700 م تقريبا وبدأت بالزوال نحو 1000 ميلادية أي استمرت قرابة ثلاثة قرون، واستمر الانحطاط الحضاري حتى وقتنا الحاضر. ليس هناك مجال لتقديم تفاصيل أكثر ولكن كل ما يمكن قوله إن هناك شيئا مرعبا قد حصل!
ماذا حدث للعرب والمسلمين لكي تنقرض حضارتهم وحتى وقتنا الحاضر؟ لا شك أن هناك كارثة أشبه بكارثة انقراض الديناصورات. ما هو تفسير هذا الانقراض؟ لقد تعرضت كثير من الحضارات إلى مصاعب وأزمات ولكنها تجاوزتها وعاودت المسير بصورة أو بأخرى. أية كارثة حلت بالحضارة العربية الإسلامية؟
للأسف ليس هناك من إجابات تقدم للمجتمع سوى شعارات سياسية حالمة ولعن مستمر للاستعمار الانجليزي سارق الثروات وأميركا عدوة الشعوب والصهيونية العالمية. أما مراكز البحوث العربية فتلقي اللوم على هولاكو الشماعة الكبرى. لقد حصلت كارثة هولاكو العام 1253م أي بعد أن بدأ الانحطاط بقرنين من الزمن. لنقل مع القائلين إن هولاكو محا ما بنته هذه الحضارة خلال القرون الثلاثة تلك، لماذا لم تنهض هذه الأمة بعد ذلك لتعيد البناء من جديد. لقد مضى على هولاكو قرون عدة ومازال العرب لم يتخلصوا من نكسته فأية أمة هذه؟
لقد بنى الغرب قوته أثناء غفوة العرب والمسلمين التي استمرت قرونا؟ أليس من حقنا التساؤل عن سبب هذه الغفوة الكارثة؟ أليس من حقنا البحث عن تفسيرات علمية عن سبب هذه الغفوة الكارثة؟ لو عرفنا السبب سوف لن نتساءل لماذا لم نقدم شيئا للبشرية خلال التسعة قرون الماضية؟
لقد كانت اليابان غافية ولكنها استفاقت خلال القرن التاسع عشر ونهضت وانتكست في الحرب العالمية الثانية ونهضت من جديد. لماذا لم ينهض العرب والمسلمون ليشاركوا الإنسانية المعاصرة البناء؟
لقد مللنا التفسيرات الايديلوجية الجوفاء عن الاستعمار والصهيونية. إن مشكلة التخلف العربي والإسلامي كانت قبل أن تصبح بريطانيا إمبراطورية عظمى وقبل اكتشاف أميركا وقبل قيام الصهيونية العالمية وقبل احتلال فلسطين.
إنها مشكلة الانغلاق الفكري التي بدأت منذ القرن الحادي عشر الميلادي عندما تم تحريم التفكير وخنق الدين. وبدأت محاكم التفتيش بالظهور. لقد بنى الدين الإسلامي حضارة متميزة واضحة المعالم لا تزال آثارها شاخصة رغم الزمن. لقد كان الدين الذي قاد إلى هذه الحضارة هو دين رسول الإسلام الذي منع المتاجرة بالدين واستعباد الناس وكانت الحرية كبيرة وقادت إلى إبداعات كبيرة. أما الذين خنقوه وشوهوه هم الذين سببوا هذه الكارثة الحضارية الرهيبة. لم يعد الدين كما كان لقد أصبح دينا جديدا ويزداد ابتعادا عن دين الدعوة الأولى بزيادة تراكم البدع والانغلاقات الفكرية. لقد خنقوا روح الدين وحولوه إلى صنم لا روح فيه. لذا قُتل المعتزلة وابن عربي واُحِرقت كتب ابن رشد وحُرمت الفلسفة والتفكير ووو... الخ. لقد ظهرت محاكم التفتيش في أوروبا قبل الثورة العلمية وكانت الثورة العلمية ناتجا لاندحار المحاكم ومنشئيها، أما محاكم التفتيش الإسلامية فقد نشأت بعد الثورة العلمية وأدت إلى خنقها وكبح جماح التطور الفكري ثم العلمي. في الغرب اندحرت محاكم التفتيش بالفكر العلمي وعندنا اندحر العلم بمحاكم التفتيش. لو تسنى للرعيل الإسلامي الأول أن يعود ليحيا الآن بيننا فإنه سيجد دينا جديدا ومختلفا عن الدين الذي عرفوه. إنه دين المفكرين الإسلاميين وليس دين رسول الله. لقد قادت محاكم التفتيش الإسلامية والانغلاق الفكري إلى أن يعود الدين الإسلامي المؤدلج إلى العرب عبر قوميات أخرى ليعيشوا (العرب) مستعَمرين متخلفين مقيدين ما بين استعمار عثماني أو استعمار صفوي. لقد دمر المستعمرون الإسلاميون الإنسان العربي والمسلم وسرقوه أكثر من ما دمره وسرقه الاستعمار الغربي. خمسة قرون لم تبن طابوقة واحدة في بغداد لتخلد المجد العثماني، وعاصمة الخلافة العثمانية لا تزال زاهية لحد الآن بما تركه العثمانيون وراءهم من سرقات من بلاد المسلمين. خلال بضع سنين بني الاستعمار الانجليزي السارق والكافر أضعاف أضعاف ما بناه الاستعمار العثماني المسلم خلال خمسة قرون.
للأسف يغض الجميع الطرف عن هذه الحقبة الطويلة جدا والحالكة السواد من التاريخ. إنها لا تزال تفعل أفعالها في الحاضر ولا يزال السلطان والدراويش العثمانيون يلعبون دورهم في التخدير والتنويم الجماعي ويحاولون احتلال زمننا الحاضر من جديد. تجد هؤلاء السلاطين وعاظهم ودراويشهم أينما تذهب في بلاد العرب. للأسف لا يزال الفكر العربي والإسلامي يعيش السبات الحضاري ولم يستوعب النكسات والهزائم لأنهم لا يزالون يعتقدون بأن المؤمن مبتلى! وسيبقى مبتلى إن لم تتغير العقول وليس القصور. إن تراكمات قرون وقرون من التخلف والانحطاط لا يمكن أن تزول خلال عشرات السنين ومن دون إرادة في التغيير.
العرب عاشوا التراجع الحضاري متخلفين لأكثر من ستة قرون عن الحضارة الإنسانية؛ لأنهم تنازلوا عن حريتهم الفكرية. الحرية والعلم صنوان فلا علم من دون حرية ولا حرية من دون علم. والعرب الآن في مرحلة ما بعد التخلف وليس النهضة. هل سيدركون الواقع المرير بعيون علمية فاحصة ويبدأون بالحلم بالنهضة على الأقل أم سيبقون في موقع المبتلى لأنهم مؤمنون. هل من الأفضل أن تبقى مؤمنا مهانا وتلعن الأقدار أم أن تكون عزيزا سيدا واعيا؟ الآن أجبتكِ يا هبة وأرجو أن تكوني قد عرفتِ الآن أين نحن؟ معذرة لم أستطع وقتها أن أجيبكِ. لقد كان زمنا قاسيا ولا يزال.
*أستاذ في جامعة سري (Surrey) المملكة المتحدة، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2500 - الجمعة 10 يوليو 2009م الموافق 17 رجب 1430هـ