بعد زهاء الأربعين يوماً من القمة العربية السابعة والعشرين المنعقدة بنواكشوط، كما يحلو للبعض أن يكتبها، يمكن أن ننظر إلى الحدث بعين الموضوعية لنبحث عن مدى تطابق مخرجاتها مع شعارها «قمة الأمل»، ولنضعها في سياقها لعلّنا نكون إلى إنصاف دولة موريتانيا الشقيقة أقرب منّا إلى بخس جهودها كما فعل المنفعلون من المحللين خلال انعقاد القمة وما بعدها. ذلك أن جل المحللين لا ينطلقون من واقع الحدث نفسه بقدر ما ينطلقون من مواقع وقناعات سياسية تفضي إلى أحكام مسبقة قد لا تكون منصفة. لذا من المنصف النظر في هذه القمة من حيث الشكل ومن حيث المضمون حتّى نرتقي في الحكم لها أو عليها سواء تعلّق الأمر بالدولة المستضيفة أم بالجامعة العربية الراعية للقمّة.
انعقدت القمة العربية 27 في ظرف عربي ودولي معقد حيث الإرهاب واللاجئون غير الشرعيين من أكبر الأزمات التي يواجهها العالم العربي خلال هذه المرحلة. وكذا الأزمات في سورية وليبيا واليمن والعراق تعكس ظواهر متشابهة ترتبط بتراجع دور الدول لحساب ميليشيات وتنظيمات طائفية متطرفة ولاعبين من خارج الأطر الرسمية، ولاعبين دوليين وإقليميين يعملون لتوسيع نفوذهم على حساب السيادة ووحدة أراضي الدول العربية.
وقد كان من المقرر أن تحتضن القمة المملكة المغربية الشقيقة إلاّ أنّ المغرب اعتذر في فبراير/ شباط الماضي عن ذلك، وعذره أنّ «العالم العربيّ يواجه تحديات حقيقيّة، ولا يمكن عقد قمة الغاية منها عقد القمة فقط». وبحسب بيان الخارجية المغربية حينها فإن الأوضاع في العراق واليمن وسورية وفلسطين تزداد تعقيداً بسبب كثرة المناورات والأجندات الإقليمية والدولية وتواصل الاستيطان الإسرائيلي، فلا يمكن عقد اجتماع جديد لقادة الدول العربية، من دون تقديم إجابات جماعية حازمة لمواجهة هذا الوضع.
وقد غاب عن قمة العرب في نواق الشط، التي آل تنظيمها إلى موريتانيا بحسب الترتيب الأبجدي، معظم قادة العرب، حيث كان حضورهم باهتاً (7 فقط) واختزلت القمة في يوم واحد بدلاً من يومين كما كان مقرراً. ومن حيث الشكل أيضاً لوحظ غياب الرئيس المصري الذي كان من المفترض أن يسلم رئاسة القمة إلى نظيره الموريتاني، غير أنه اعتذر عن حضور القمة في آخر لحظة. كما يُسجّل عدم مشاركة أي من قادة دول المغرب العربي ولو من باب التضامن مع موريتانيا الدولة العضو في الاتحاد.
وعلى رغم ذلك قبلت موريتانيا التحدي على رغم تواضع بنيتها التحتية، وعدم توافرها على أية تجربة في تنظيم مؤتمرات بهذا الحجم، وعلى رغم تشكيك البعض في قدرتها على ضبط التنظيم بشكل دقيق، وأخذت تسابق الزمن لتنظيم القمة في الأجل المحدد وهو نهاية شهر يوليو/ تموز 2016 (مهلة لا تتعدى ستة أشهر)، بناءً على ذلك فإنّ مستوى التحضير يجب أن يقاس بالنسبة إلى المهلة الزمنية. وعلى رغم ذلك فقد بذلت السلطات الموريتانية جهوداً جبارة لإعداد القمة عكستها نتائج وظروف الاجتماعات التحضيرية مثل اجتماع الخبراء واجتماع وزراء الخارجية يومي 22 و23 يوليو 2016، وهي اجتماعات مرت في ظروف جيدة عموماً.
لذا يحسب لموريتانيا هذا الجهد، بل إنه إنجاز تاريخي لها، ولمصلحة الأمة العربية؛ ففي وقت تمرّ به أغلب البلدان الشقيقة بأزمات داخلية تتطلب قيادة واعية وفاعلية كسبت موريتانيا رهان التحدي، وسيرت ملف القمة بقدر كبير من الثقة في النفس، وأنقذت دورية الاجتماعات، وأتاحت للقادة العرب فرصة لنقاش واقع الأمة وإقرار سلسلة من الأولويات ستكون محل متابعة من قبل لجان الأمانة العامة للجامعة العربية والرئاسة الموريتانية خلال الفترة المقبلة.
كما نجحت قمة نواكشوط في كسب التحدي التنظيمي والأمني؛ على رغم تحذيرات معهد كارنيغي لدراسات السلام الدولي، الذي يعتبر موريتانيا «الحلقة الأضعف في النظام الأمني لمكافحة الإرهاب في المنطقة، فالبلاد تعد هدفاً مفضّلاً لهجمات الجماعات الإرهابية المتمركزة في الصحراء، وهي مهيأة لزعزعة الاستقرار على يد تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».
نعم نجحت موريتانيا في الاضطلاع بالمهمة الجسيمة التي أسندت إليها، ويتجلّى هذا النجاح في تحقّق شروط النجاح الأربعة وهي: الأمن، والنظام، وكرم الضيافة، والوحدة الوطنية. ويعتبر كثير من المتابعين أنّ قيادة موريتانيا للقمة ربما حالت دون انحطاطها في وحل التجاذب العقيم والتدابر والتخوين. فقد تم التأكيد على محورية قضية فلسطين بصفتها قضية العرب الأولى، وتبني مكافحة ظاهرة الإرهاب، وإخماد الفتن الداخلية، وحل النزاعات بالطرق السلمية وحدها، والعمل على تحقيق تنمية مستديمة ومندمجة، لكن من دون الإفصاح عن آليات حقيقية لتحقيق كل ذلك.
نعم نجحت موريتانيا لكن فشلت الجامعة العربية في كسب التحدي العربي الراهن، حتى وصفها خبراء بأنها «قمة بلا قيمة» وأنها قمة الأمل الغائب؛ فكلمات رؤساء الدول السبع الذين حضروا كانت باهتة مكررة تخلو من حماس اللحظة وخطورة الوضع العربي الذي بات على صفيح ملتهب بالخلافات والاضطرابات.
ولعلّ لغياب الرئيس الفلسطيني محمود عباس أثراً واضحاً، فهي المرة الأولى التي يغيب فيها الممثل الأعلى للقضية الفلسطينية المحورية منذ القمة العربية الأولى العام 1964، وهو ما قد يعنى غياب الزخم والاهتمام بها، وخاصة مع الظروف الحرجة والانقسام الذي يعصف بالفلسطينيين وانسداد أفق المفاوضات مع إسرائيل. فضلاً عن المفارقة بين زيارة القدس الشريف وفك الحصار مع ما يعنيه من تطبيع غير مباشر مع العدو الصهيوني؛ إذ لا زيارة ممكنة من دون إذن إسرائيل.
لقد جاءت هذه القمة في وقت عصيب تعاني فيه معظم الدول العربية من شبح الإرهاب والحروب الأهلية، فضلاً عن مشاكل التنمية والبطالة وغيرها... ما يجعل هذه القمة، على رغم جهود موريتانيا في تنظيمها، غير مستجيبة للتحديات التي ترزح تحتها البلاد العربية شعوباً وأنظمة.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 5113 - الإثنين 05 سبتمبر 2016م الموافق 03 ذي الحجة 1437هـ
مقال رائع استاذ
يعطيك العافية