كما في عدد من كتبه السابقة، طرح الكاتب البحريني نادر كاظم أجزاء كثيرة من «خارج الجماعة» كمقالات صحافية قبل أن يجمعها ويصدرها في صورة كتاب. وفي هذه الطبعة الثانية للكتاب، الأولى عربياً (حيث كانت الطبعة الأولى محلية النشر فقط) اختار كاظم العنوان الفرعي «عن الفرد والدولة والتعددية الثقافية» بدلاً من سابقه «في تجاوز الليبراليّة والجماعيّة القمعيّتين»، وفي الحقيقة فكلاهما مناسبان، حيث إن الكتاب يدون حول محاور الانتماء للجماعة، وحرية الفرد في تحديد هويته، وكيفية التعامل مع معضلة الثقافات المختلفة في الدولة الواحدة.
يفتتح كاظم الكتاب بالربط بينه وبين كتابه السابق «استعمالات الذاكرة»، حيث يؤكد الهدف المشترك للكتابين حول رفض اختزال الإنسان وتقليصه في هوية ورؤية واحدة، سواءً كان ذلك من قبل الدولة أو الجماعة أو حتى الفرد نفسه، وكذلك حول عدم صحة تأييد الدولة لرؤية واحدة في ظل وجود تعددية ثقافية في المجتمع. ينتقل بعد ذلك لنقد الجماعية المفرطة وكذلك الفردانية المفرطة، حيث إن الأولى تفرض رؤاها على أفرادها وتقيّدهم بالتزامات كثيرة، وتزداد شراسة الجماعة وقسوتها مع ضعفها، وهو أمر يحدث مع تمدد الدولة واحتكارها لوسائل العنف. هذا الوضع جعل الفرد ملزماً بتقديم الولاء المزدوج للجماعة والدولة، ويا ويله إن تعارضت مصالح الطرفين. أما الفردانية المتطرّفة، فوصفها بالموقف الأيديولوجي المتعصب الذي حوّل عبادة الجماعة إلى عبادة الفرد.
يرى الكاتب أن للعيش خارج الجماعة فوائد وسلبيات، ففي حين أنه يعني حياة الغربة داخل الوطن والحرمان من امتيازات الجماعة كالشعور بالأمن والاستقرار، فإنه يعني كذلك التحرر من الالتزامات التي تفرضها الجماعة. الفرد خارج الجماعة - وهو الموقف الذي يبدو أن الكاتب يميل له - حر في «عدم التسليم جدلاً بأي شيء» وفي «تفحّص الأوضاع وكأنها ممكنة الحدوث لا محتومة»، إلا أن هذا الموقف يصبح جباناً وانتهازياً في حال تعرض الجماعة للقمع والتهديد. ولا يعني التضامن مع الجماعة عدم توجيه النقد لها، بل إن واجب «المثقف النقدي» - وفي الوقت نفسه الذي يدافع فيه عن المستضعفين - هو الوقوف ضد «طغيان الجماعة وصعود دكتاتورياتها، والوقوف ضد محاولات الانغلاق الثقافي».
حرية تغيير الاختيار
القضية الأساسية بحسب رؤية الكاتب ليست في الانتماء للجماعة أو البقاء خارجها، فلكل فرد انتماءات متعددة لا حاجة لاختزالها في انتماء واحد. القضية هي حرية الاختيار وحرية تغيير هذا الاختيار لاحقاً، حينها يكون الإنسان قد ربح نفسه حقاً.
ينتقل الكاتب بعد ذلك للحديث عن التعدُّدية الثقافية بإسهاب، من منظور غربي أولاً ومنظور بحريني لاحقاً. أثار موضوع الهجمات الإرهابية في الغرب تساؤلات حول جدوى التعددية الثقافية ودورها في الدفع نحو الانفصال والانعزال وتكوين الثقافات الأحادية المتنوعة بدلاً عن التنوع الثقافي الحقيقي الذي لا يعطي للجماعة حق السيطرة على المنتمين لها. يتكرَّر هنا النقد لاختزال وجود الفرد في كونه عضواً في جماعة معينة، سواءً كان هذا الاختزال من قبل مؤيدي التعددية أو خصومها.
يطرح الكاتب نموذج «التعددية الثقافية الليبرالية» كحل للمشاكل التي تواجه التعددية الثقافية، فالمساواة والحيادية التامة غير صالحة إلا في إطار الحد الأدنى من الحقوق الأساسية، أما الليبرالية فهي الضمانة لعدم تحول التعددية الثقافية إلى كانتونات مغلقة ومعزولة. هناك أيضاً مناقشة لإشكالية الاعتراف الرسمي بالجماعات بين اعتباره استحقاقاً مدنياً وبين كونه تمييزاً ضد عدم المعترف بهم، وكذلك حول المشاكل المحيطة بطبيعة وحدود الاعتراف بالجماعات في قبال الحيادية التامة للدولة أو «المعاملة العادلة المتمايزة».
نصل إلى البحرين، حيث يشخَص الكاتب مشكلتين تتعلقان بالتعددية الثقافية، الأولى هي الاعتراف بوجهة نظر وهوية واحدة من قبل الدولة وهي دين الإسلام واللغة العربية، ففي حين تنتمي الغالبية شبه المطلقة من البحرينيين للدين الإسلامي، فإن هذا لا ينفي وجود أقليات لا تنتمي له، يشكل الاعتراف الرسمي بالإسلام ديناً للدولة - بكل ما يستتبعه من أمور - تمييزاً ضدها. ولكن الكاتب لا يرى أن هذه هي المشكلة الأهم، فقضية تدبير سياسيات الاعتراف الخاصة بالطائفتين السنية والشيعية هي التحدي الأكبر، خصوصاً بعد تفاقم الأزمات بدءاً من مشروع «قانون الأحوال الشخصية» ووصولاً إلى أحداث 2011 وما تبعها. يؤكد الكاتب ضرورة أن يشمل الحل - أياً كان - الاعتراف بالتنوّع الموجود داخل كل جماعة، وبحرية الأفراد في الخروج عن جماعتهم وألا يتم اختزال الأفراد في انتماء واحد فقط (ديني، مذهبي، إثني) من قبل الدولة والتعامل معهم وفقه، بل يجب الاعتراف بكل انتماءاتهم المتعددة.
تكوين الهوية الأصيلة
في الفصلين الأخيرين يتحدث الكاتب عن مهمة الفرد في تكوين هوية أصيلة وذاتية، مصدرها القناعة الداخلية بعيداً عن رغبة التطابق مع الجماعة والمصادفات الجزئية في الحياة. ولكن الموضوع الذي استحوذ على اهتمام الكاتب هو «مهزلة» تحويل الاختلاف إلى كراهية وعداء وتنافر، قد يؤدي إلى القتل والمجازر. إن تحويل المعتقدات إلى هويات يؤدي إلى المبالغة في استعراض الدِّين إلى العلن والاهتمام بالعلامات التي تميّز الجماعة عن غيرها. إننا نعيش في «عصر الهويات» و «القبلية ما بعد الحداثية» حيث يلغي حضور الجماعة الكلّي الفردية والاستقلالية وتصبح الهوية فحسب - والتي اختزل وجود الفرد فيها - سبباً كافياً للاستهداف سواء انتمى لها الفرد بشكل عملي أم لا.
طرح عدد من المفكرين حلاً لهذه «الهويات القاتلة» عن طريق تحريك الانتماءات المتنوعة والهويات المنافسة، إلا أن الكاتب يجد في ذلك صعوبة بسبب عدم القدرة على إقناع الآخر بعدم اختزال الفرد في هوية واحدة، وفي المقابل يرى الكاتب أن «تذويب المسافة» بين الجماعات المختلفة يمكن له أن يقضي على «الوحش» الكامن فيها الذي يجعل ظلم وقتل الآخر مشابهاً لقتل صرصور أو ذبابة، إلا أن هذه العملية في حد ذاتها قد تقضي على الهوية. وللخروج من هذه الدوامة يجب التفكّر في القواسم المشتركة بين البشر، وفي عبثية عملية الإبادة التي فشلت على مدار التاريخ.
بالرغم من أن جزءاً كبيراً من الكتاب نشر في شكل مقالات صحافية إلا أنه اتّسم بوحدة الموضوع إلى حد كبير، مع قليل من التكرار هنا وهناك. وُفّق الكاتب في استعراض آراء عدد كبير من المفكرين في المبادئ والأفكار التي تحدث عنها، ووُفّق كذلك في الاستشهاد بأمثلة تاريخية ومعاصرة كثيرة وهذا يُسهم في فهم هذه الأفكار المطروحة. في بعض المقاطع غلبت هذه الاستعراضات والاستشهادات إلى حد كبير على صوت الكاتب الذي لم يترك لنفسه إلا مجالاً صغيراً لطرح رأيه في الموضوع.
إن عبثية الإبادة الجماعية ليست بسبب استحالتها، فعلى عكس ما ذكر الكاتب هناك بعض الإبادات الناجحة التي حصلت في التاريخ كما حصل مع الشعب الأصلي لجزيرة تازمينيا وشعب البيوثك في جزيرة نيوفاوندلاند الكندية وغيرها، ولكن كل هذه الأمثلة هي حالات استثنائية وقعت في ظروف تاريخية استثنائية من تاريخ البشرية. أكبر عبثية في الإبادة الجماعية هي أنها - كما ذكر الكاتب في موضع آخر - حلقة لا تنتهي، فسرعان ما تظهر انقسامات جديدة وجماعات جديدة بعد كل عملية تطهير وإبادة.
مشكور ويعطيك العافية
وين اقدر احصل الكتاب
راجع حساب الدكتور نادر على تويتر
مقال راقي وفكر يستحق التدقيق والتمحيص