لا تعرف السنة التي انتقل فيها ابن باجه من اشبيلية الأندلسية إلى فاس المغربية إلا أنها توافقت مع اشتداد المعارك الفكرية الكبرى خصوصا ضد الإمام الغزالي (توفي سنة 505 هجرية) بسبب اتساع نطاق تأثير أفكار مشروعه الإحيائي. فنجم الغزالي ازداد سطوعا في سماء الشرق الإسلامي واشتد نفوذ حركته الإحيائية في الغرب الإسلامي بعد تراجعها المحدود على أثر الهجمات الافرنجية في الأندلس وبلاد الشام. وبسبب تبني حركة الموحدين، في بداية صعودها، المنظومة الفكرية للغزالي ازداد حقد سلطة المرابطين عليه واتجهت نحو محاربة كتبه ومنعت تداولها وحرقتها.
نظرا لمكانة ابن باجه وموقعه الثقافي المميز، إلى باعه الطويل في مهنة الطب، احتاجه والي فاس واستدعاه إلى هناك للمساعدة في تشكيل جبهة عقائدية مضادة. في فاس تولى ابن باجه منصب الوزير في عهد يحيى بن يوسف بن تاشفين ونشط هناك في ظروف غير مستقرة على المستويات السياسية (وزير)، والمهنية (طبيب) والفكرية (فيلسوف) الأمر الذي زاد من عداوته في بلاط الوالي وعطل عليه إمكانات تطوير منظومته الفلسفية نظرا لكثرة مشاكله وانهماكه في وظائف مختلفة وأحيانا متضاربة.
كتب ابن باجه أكثر من ثلاثين رسالة في الفلسفة وجاءت أفكاره موزعة ومتشتتة، ومعظم كتاباته القليلة هي عبارة عن مجموعة رسائل وجه أكثرها إلى تلميذه المخلص ابن الإمام.
تأثر ابن باجه بأفكار الفارابي وخصوصا كتاباته عن «المدينة الفاضلة» و»السياسة المدنية» ومحاولاته في الجمع بين آراء الحكيمين (أفلاطون وسقراط) مستخدما كتاب «جمهورية» أفلاطون، ومنطق أرسطو. وأهم ما في كتاباته عزوفه عن فلسفة ابن سينا وانتقاده العنيف للإمام الغزالي إذ اتهمه بالتصوف (وهي لحظة طارئة في تطوره الفكري) وتجاهل إنجازاته الفقهية والفلسفية الأخرى التي تعتبر الأساس الفكري لمشروعه الإحيائي.
حاول ابن باجه مسايرة الوضع السياسي في المغرب بإنشاء تصورات فلسفية مثالية تبرر تحوله وموالاته لجانب دولة المرابطين فتحدث عن «مدينة كاملة» مستمدا نموذجها العام، مع بعض التعديلات، من «جمهورية» أفلاطون ومدينة الفارابي «الفاضلة». إلا أنه اصطدم بمجموعة عقبات منها غيرة بعض المثقفين منه ومنافستهم له في مهنته (طبيب) وموقعه الرسمي في الدولة.
على أساس تلك التعارضات الشخصية قام بتركيب تصور فلسفي - سياسي انتقد فيه المثقفين في عصر «ملوك الطوائف» الذي شهد نهاياته فوصفهم بالخسة. ومثل هذا الصنف «موجود كثيرا في هذا الزمن الذي كتبنا فيه هذا القول». فهؤلاء «يعرفون بالمتجملين» ولذلك «يقال إن التجمل يذهب بالمال، ويتوسلون به في حوائجهم عند أكابرهم ويهرجون ويمرجون بها» (رسائل ابن باجه، صفحة 64).
ورد عليه خصومه واتهموه بالجهل في مختلف العلوم من طب وفلسفة ورياضيات وهندسة وبسرقة أفكار الفارابي. فرد ابن باجه بتأكيد اختلافه عن صاحب «المدينة الفاضلة» في مسألة اللقاء المدني والإنساني ومنه «اللقاء للتعليم والتعلم، وهو اللقاء العقلي، لأنه بالفعل النظري يكون هذا اللقاء، وهو أصناف، كما العلم النظري أصناف» وصولا إلى «اللقاء الإلهي» الذي هو «أشرف أصناف الالتقاء» وتحصيله هو غاية « وإذا تحصلت الغايات اكتفى عن التوطئات، فإن هذا العلم إذا حصل كان اللقاء فضلا لا يحتاج إليه» (رسائل ابن باجه، صفحة 143). ويرى ابن باجه أن صفة الغاية التي ينتهي الطبع بالسلوك إليها أطال وصفها من سبقه وكرر الفارابي القول فيها «لكن لا يوجد في جميع كتبه التي وصلت إلى الأندلس هذا النحو من النظر» (ص 143).
إلى مسألة غاية العلوم اختلف ابن باجه مع الفارابي على مفهوم الإنسان الغريب، فالغريب في مدينة الفارابي هو «الفاضل» بينما عنده هو «المتوحد» الذي يعيش غريبا وحيدا في مدينة ناقصة لا تتوافر فيها شروط التكامل الإنساني.
تركز نقد ابن باجه على منظومة الإمام الغزالي الفكرية انطلاقا من موقف انتهازي مصلحي عابه عليه أنصاره وخصومه. فهو ينتقد الغزالي بصفته ظاهرة صوفية مجردة عن الاجتماع والواقع وهو أمر غير دقيق، لأن الغزالي مر في محطة صوفية في سياق تطوره الفكري ليعود عنها ويتجاوزها لاحقا. فالصوفية عند الغزالي هي تجربة وليست معرفة وحتى يتعرف عليها كان لابد له من أن يمر بحالاتها، بعدها عاد إلى موقعه عندما تعرف على ما يسميه المتصوفة بالمشاهدة. وهي المسألة التي ينتقدها ابن باجه من دون إشارة إلى ظرفيتها وحدوديتها في مشروع الغزالي الإحيائي.
استغل ابن باجه هذا التفصيل في المشروع الإحيائي الكبير ليشن هجومه على أفكار الغزالي انطلاقا من مشاهداته الصوفية «لذلك يقول الغزالي إنه أدرك مدركات روحانية وشهد الجواهر الروحانية (...) ولذلك زعم الصوفية أن إدراك السعادة القصوى قد يكون بلا تعلم» (الرسائل، صفحة 55). ويعلق ساخرا على كتاب الغزالي «المنقذ من الضلال» حين وصف فيه طرفا من سيرته «وذكر أنه شاهد عند اعتزاله أمورا إلهية والتذ التذاذا عظيما (...) وهذه كلها ظنون وأشياء يقيمها مثالات الحق. وهذا الرجل يبين من أمره أنه لم ينتقل عن هذا الصنف ولا عن مآله الأولي وأنه غالط أو مغالط بخيالات الحق (...) وأن الإنسان يلتذ بالوصول إليها ومشاهدة أحوالها وأحوال أجزائها (...) مما يفهم به أن الغاية القصوى من علم الحق الالتذاذ» (الرسائل، صفحة 121). فابن باجه لا يكتفي بانتقاد مفهوم المشاهدة الصوفية بل يتهم الغزالي بأنه من أنصار الوصول إلى المعرفة عن طريق اللذة وإلى اللذة عند طريق المعرفة.
إلى ذلك، يتناول ابن باجه مسألة الدهشة عند الصوفية متهما الغزالي بالإفراط في وصف هذه الحال التي قال بها المتصوفة و»ذلك أن هذه الحال تعرض لهم للخيالات التي يجدونها في نفوسهم حسب ما يظنون، سواء كانت صادقة أو كاذبة» (الرسائل، صفحة 171).
لم تسعف الفلسفة ابن باجه في تحسين مواقعه في لحظة اشتد فيها الصراع المرابطي مع حركة الموحدين كذلك لم تحسن صورته في نظر الفلاسفة الذين عاصروا دولة الموحدين كابن طفيل وابن رشد الحفيد. فابن طفيل مثلا يمتدح كثيرا ابن باجه ويتطرق إلى أفكاره في قصته الفلسفية «حي بن يقظان» وينكر معرفته به، بل يتهمه بالنفاق لأنه تحدث عن الإنسان الفاضل (المتوحد) في مدينته الكاملة في وقت كانت سيرته الشخصية غير فاضلة، فهو، كما يذكر ابن طفيل، انغمس في الملذات واستغل موقعه في السلطة ليقضي عطله وينصرف عن التحصيل العلمي لقضاء سهراته في مدينة وهران.
يعتبر ابن طفيل أن تقصير ابن باجه في تطوير منظومته الفلسفية يعود إلى أسباب تتعلق بشخصيته التي انحرفت عن تحصيل العلم إلى طلب الملذات وهو أمر انعكس على كتاباته القليلة التي تميزت بقلة الكلام والإيجاز ليس بسبب انشغالاته السياسية والفكرية بل نتيجة انغماسه في اللهو والطرب.
إن تفسير ابن طفيل لتقصير ابن باجه ليس دقيقا على رغم صحته في جوانب كثيرة، وربما يكون سبب قساوة حكمه على سلوكه الشخصي يتعلق باختلافه الفلسفي عنه. فابن باجه ينكر الذوق كطريق من طرق الوصول إلى المعرفة العقلية، بينما يعتمد ابن طفيل في منهجه على العقل والذوق معا.
كان ابن باجه قليل الكلام وعميق المعرفة وهذا سبب أزمته الفكرية. فالمثال عنده (المدينة الكاملة) اصطدم بالواقع (مدينة فاس) وانتهى المطاف إلى صدمة نفسية عبر عنها في مفهومين: الأول، الوعي الشقي الناتج عن تفاوت وعي المتوحد مع نواقص المدينة. والثاني، الإنسان الغريب وهو الوحيد بين أقرانه وجيرانه إذ يجد نفسه في موقع متقدم ويضطر إلى مسايرة أهل مدينته ليحقق التجانس بينه وبينهم. وهنا بالضبط مصدر شقاء ابن باجه وأساس إحباطاته النفسية، اذ اتهم بالكفر والإلحاد في فترة وصل فيها الانقسام السياسي- الفكري إلى أقصى درجاته. فالأزمة الشخصية لابن باجه هي أصلا أزمة مشروعه السياسي وفشله في تأسيس قوة مضادة تخالف السائد في عصره في وقت ارتقت فيها المناوشات العسكرية بين المرابطين والموحدين إلى مستوى حرب التصفيات الشاملة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2499 - الخميس 09 يوليو 2009م الموافق 16 رجب 1430هـ