إذا أردتَّ أن تعرف قيمة الإنسان العربي في حضارة العصر الذي نعيش، فما عليك إلا أن تقضي بعض الوقت في أوروبا. حاول أنْ تتحسَّس وأنْ تتابع أحاديث الناس في مجالسهم، رسائلهم في الصحف، المواضيع التي تشغلهم ويعبِّرون عنها في اتصالاتهم بمحطات الإذاعات والتليفزيونات ووسائل الاتصال الاجتماعي الشعبي.
لا تدعْ نفسك تضيع في متاهات التصريحات والمواقف الحكومية الأوروبية الرسمية: تصريح مخادع لذلك المتحدث العسكري، تبرير كاذب لذلك الناطق باسم هذه الوزارة الخارجية أو تلك، تقرير إعلامي مدفوع الأجر لصاحبه أو مصدره. لا تنشغل بأخبار خطط وكالات الاستخبارات لتجنيد هذه الجهة وإغداق السِّلاح على تلك الجبهة.
تلك كلها اهتمامات رسمية نفعية لصالح الشركات ومصانع الأسلحة، وخيوط في شبكات الصِّراعات والتوازنات الدولية.
الأسئلة الأساسية: ما موقف المواطن الأوروبي العادي تجاه مآسي وأوجاع ودمار الوطن العربي؟ ما مقدار الإحساس بالأهوال التي يعيشها العرب، وما مقدار التعاطف والتعاضد مع ضحاياها؟ ما حجم التكافل الإنساني والأخوة البشرية؟ ما نوع وشدّة ردود الأفعال تجاه استباحة أوطان الآخرين وإسقاط أنظمتهم وتقسيم دولهم والتدخُّل في كل صغيرة من شئون حياتهم؟
تجيب على تلك الأسئلة مقارنة بين ظاهرتين، الأولى تتمثَّل في موت طفل أوروبي بسبب عضَّة من قبل كلب مسعور. ما إن يتم الحدث المأساوي حتى تكتب الصحف وتتحدَّث وسائل الإعلام المختلفة، ويعبِّر الجمهور بكل وسيلة لديه عن رثائه للضحية وعن تعاطفه الإنساني مع عائلة تلك الضحية، ثم تنهال الاقتراحات حول ضرورة ونوع التعديلات في القوانين المتعلقة بتربية الكلاب ووسائل ضبطها، لمنع مثل هكذا حوادث. يستمر ذلك الهرج والمرج عدّة أيام مثيراً للإعجاب بصورة التمدُّن والتحضُّر.
لنقارن ذلك بالظاهرة الثانية. في نفس الوقت، إبّان لحظات تلك المأساة الأوروبية يموت المئات من أطفال وشيوخ وعجائز العرب تحت أنقاض ما بقي من مدن العرب. يحدث ذلك على يد بربريات ميليشاوية جهادية مجنونة وقوى أمنية عسكرية لا ترحم ومستشارين تابعين إلى استخبارات أجنبية تابعة لبعض دول أوروبا. فما هو ردُّ الفعل تجاه أنهار الدماء العربية، وتشريد وتهجير الملايين العرب؛ ليعيشوا في مخيمات الذل، أو يهيموا على وجوههم ليموتوا في البحار أو على حدود بلدان الغرب التي باتت لا تريدهم؟
ردُّ الفعل ليس أكثر من نتف من الأخبار القصيرة التي تُتلى في بضع ثوان، ثمُ يطويها النسيان. لا نقاش ولا جدال ولا اعتراض ولا مقترحات فيما بين الناس للعاديين. نفس الإنسان الذي تفاعل بإنسانية وأريحية تجاه عضَّة كلب مميته يتفاعل ببرودة عواطف وبقلّة اكتراث تجاه موت العشرات من العرب. نحن لسنا أمام إنسانين إذن!
وإنّما أمام طرفين متباينين لمأساة واحدة. طرف تبنيه وتفرضه المبادئ والممارسة الديمقراطية التي تحتّم على الكل التفاعل والتعاضد مع كلِّ ذي محنة. من هنا شفافية الإعلام للحدث المحلي ونقاش الناس المستفيض حول الحدث المحلي. أمَّا الطرف الآخر فتبنيه وتفرضه المصالح ولاغير المصالح. نحن هنا لسنا أمام إعلام المجتمع وإنّما أمام إعلام المصالح. فاذا كانت المصلحة لهذه الجهة أو تلك ألا يخوض الإعلام في موضوع موت العرب وعذاباتهم فانه لن يخوض، إلاّ من رحم ربي، وهو أقل القليل.
لكنَّ الشيطان يظل يلعب في رأسي: كيف تفسّر إذن خروج الملايين لمنع الكذّابين جورج بوش وطوني بلير من احتلال العرق؟ هل كان ذلك عطفاً إنسانيّاً على شعب العرق أم كان خوفاً على شبابهم من أن يموتوا في حرب عبثية؟
في إحدى الأمسيات، أحضر حفلة افتتاح عزف السمفونية الثانية للمؤلف النمساوي، توماس لارشر، التي ألّفها منذ بضعة أشهر، وأعلن أنها كانت من وحي الألوف الذين غرقوا في البحر الأبيض المتوسط وهم يحاولون الهرب من جحيم بلدانهم. لقد صفّق الجمهور بحرارة هائلة للمؤلف الذي كان واقفاً على المسرح. هل كان التصفيق للفنِّ الرفيع أم للتعاطف الإنساني الذي عبَّرت عنه السمفونية وهي تصور أهوال البحر وعذابات الغرقى؟
أطرد الشيطان من داخل رأسي. أقول لنفسي: ياصديقي لا تحاول الإجابة على تلك الأسئلة، فالغرب ليس أكثر من مرآة تعكس ما يدور خارجها، بما في ذلك عذابات أمتك ودمار وطنك العربي. ركز على إصلاح المعكوس بدلاً من العاكس، إذ العلّة الأساسية في المعكوس، فهو وحده القادر على تبديل صورته وقدره في هذا العالم.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 5109 - الخميس 01 سبتمبر 2016م الموافق 29 ذي القعدة 1437هـ
كيف تنتقد عجلة صنعتها وكنت ترسا فيها ردحا من الزمان ... وربما ما تزال؟! هون عليك يا مولانا
مقال جميل جدا
هذا المعكوس الذي يراد له الإصلاح اصبح جثة هامدة بسبب الطعنات المتتالية، بتناوب الأنظمة الدكتاتورية من جهة والايدي الدولية من جهة اخرى.
نعم يتناوبون على إخضاعه لمبتغياتهم، اما بتدنيس عقائد شبابه وزجهم بحروب عبثية او بخنق طموحاتهم الوطنية في الإصلاح وتطوير الأنظمة البالية.
طموحات شباب الوطن العربي قد تتحقق يوما ما ولكن بعد نفاذ الأموال الطائلة التى تستخدم لمصالح "دولية او فئوية".
من يعيش في دوامة من الرغبات النفسية في الغرب لا يهمه الشعور بالجوع والفقر والظلم الذي يعيشه الشرق.
سياسة الغرب:
أشعلوا الحروب الطائفية والعنصرية
استقطبوا بعض المطرفين وأعطوهم امكانية انشاء فضائيات وأعطوهم الأوامر بالنبش في الامور العقائدية لضرب هذا المذهب بالمذهب الآخر.
ادعموا هذه الجهة واتركوا تلك
اخلقوا سوقا رائجا للسلاح والعتاد العسكري
من خلال ذلك سيطروا على اسواق النفط
قسّموا المقسّم وجزأوا المجزأ
بوركتم دكتور لدي سؤال : أليس طارق عزيز _ على سبيل المثال _ مسؤؤلا بنسبة ما عن إجراءات النظام العراقي السابق ؟ أليس كل وزير مسؤلا بدرجة ما عن تصرفات النظام الذي انتمى إليه ومثله لفترات زمنية طويلة ؟! ارجو من حضرتكم التعليق او الاخوة الكرام ....