ليست القساوة أمرا عابرا في محيطنا العربي، إذ تجد لها تعبيرات واضحة في سلوكيات متنوعة. مشهد الحروب الراهنة في سورية واليمن والعراق وليبيا مثال على قساوة الأنظمة وقساوة التدخل الخارجي وقساوة الحركات في ردة فعلها. كل ما يقع في المحيط العربي الراهن يصب في القساوة التي تمثل الأسوأ في تاريخ العرب الحديث. قساوتنا أقرب لقساوة الغرب في تعامله مع نفسه في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إضافة إلى عملية إبادة الهنود الحمر في الغرب الأميركي.
القساوة من نتائج الاستئثار والسيطرة والسعي إلى السلطة غير المساءلة، لكنها بنفس الوقت مصنوعة من الخوف من الآخر، ولا تنمو بين الناس إلا عبر اهتزاز العقلانية بين الناس ونزع روح الأنسنة عن ذلك الآخر. هكذا فكر هتلر وموسوليني، كما والخمير روج في كمبوديا في السبعينات، كما واليعاقبة في الثورة الفرنسية، والصهيونية في استعمارها واحتلالها لفلسطين.
القساوة العربية نتاج طبيعي للاستبداد الحديث الذي لا يشبه النظام العربي بل والعثماني والإسلامي الذي ساد القرون الغابرة حيث كانت العائلة والقبيلة والأوقاف والمناطق النائية وضعف المواصلات تقف عائقا بين السلطة والناس والأفراد. كانت القبيلة قادرة على حماية نفسها من الضرائب والتجنيد والتعسف القادم من الدولة المركزية القديمة. في الزمن الحديث تغير كل شيء، فقد تمت عملية تدمير عشوائية ومنظمة بنفس الوقت لبنى المجتمع القديم وحواضنه لكن لم يجرِ بناء بدائل جديدة تقوم على المجتمع المدني والحقوق الأصيلة الثابتة للأفراد. لقد استبدلنا تدمير القديم بما في ذلك الأوقاف المملوكة للمجتمع الأهلي بالفراغ، حيث المواطن الواقع بلا أدنى حماية أمام جبروت الدولة وقراراتها المتسرعة. لقد وقف المواطن العربي وحيدا في مواجهة القساوة التي مارسها البعث عبر تاريخه وكما مارستها، بدرجات متفاوتة، دول شتى في الإقليم العربي.
وتعبّر القساوة عن نفسها من خلال لائحة الممنوعات العربية المرعبة والتي لعبت دورها بالأساس في قيام ثورات وحراكات 2011، لنأخذ بعض الأمثلة: منع الحرية السياسية كما والشخصية والحقوق الأساسية، كما انتشرت في العالم حول التعبير وحقوقه، وهذا يتضمن أيضا عدم السماح بنقد الدولة ومؤسساتها وقادتها وجيشها وقضائها ومنع التذمر والإضراب والجمعيات والنقابات والأحزاب، وهو يتضمن في نفس الوقت منع المرأة من حقوق ثابتة كما هو حاصل في العالم، ومنع ممارسة التجارة الحرة على أرضية نزيهة، ومنع التداول على السلطة والانتخاب الحقيقي والفعال، ومنع مواجهة الفساد وعدم السماح بفصل جاد للسلطات في ظل منع نمو الاقتصاد العادل وغير المحتكر.
القساوة العربية تساوي منع الحياة وخاصة عندما تتوافر مجموعة أساسية من هذه العناصر في سياسات النظام السياسي. ليس غريبا في مجتمع كهذا أن تكون سلوكيات الموت أقوى من الحياة، أو أن تكون بعض المعارضات هي أيضاً قاسية تجاه الآخرين. القساوة تخلق نقيضها وشبيهها.
لقد اعتاد العالم العربي على القساوة لدرجة أنه يتعايش معها. كما قال لي منذ أيام شاب من ليبيا: «عندما يقع الاشتباك بين جماعتين في أحياء المدينة، نعرف أين وقع القتال ونتفادى الاقتراب من المكان الذي يقع في حي مجاور. لقد اعتدنا على قساوة الوضع. الآن فهمت كيف يتعايش السوري والعراقي واليمني مع هذا الاشتعال».
في مجتمع القساوة، فصل طلاب من جامعة لأسباب تافهة عمل طبيعي، وتدمير مستقبل شبان لأسباب مرتبطة بالتعبير عن الرأي أو بقانون التظاهر مقبول. القساوة والتفاهة والخوف من الآخر وجوه لعملة واحدة. لهذا بين القساوة والحياة الكريمة معركة دائمة لا تقل ضراوة عن كل صراعات التاريخ الكبرى. في العالم العربي حرب مستعرة بين مدرسة القساوة وأنصارها وبين المجتمع الباحث بخوف وتردد عن قواعد جديدة للعدالة والمساواة. القساوة تشترط العقاب والفرض كما تعشق العنف واللاعقلانية، أما الكرامة فمدرسة مختلفة تهتم بالإنسان والتفاصيل الممكنة للحياة.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 5108 - الأربعاء 31 أغسطس 2016م الموافق 28 ذي القعدة 1437هـ
السبب كما قال الشاعر. فغدوا حيارى لا يرون لوعظه إلا الأسنة والسهام جوابا. الطريقة الوحيدة لمواجهة الإسلام السمح هي ليست بالسماحة وإنما بذات الشوكة بالعنف والطغيان.
مقال في الصميم هذا هو الواقع الذي نعيشه