نظرتُ من شرفتي أرقب تلك الزاوية التي تحوي مقامًا يرتاده السائلون والناسكون، وعدتُ بذاكرتي عشرين عاماً إلى الوراء، وأنا أتذكّر حديث أهل الحارة عن هذا الرجل الذي أتى إلينا دون أُسْرة، ولا زوجة.
فكل أهل حارتنا القديمة يعرفون بعضهم بعضًا، وأغلبهم زوّجوا أبناءهم وأحفادهم فيها.
تغيّر عُرف أهل حارتي بقدوم عم كامل، فلم تعد قيمة الشخص بمدى مكوثه، أو سلساله الممتد فيها.
في هذا المكان... تحت شرفتي كنا نلعب صبيةً وبنات... نذهب إلى دكانه فنشتري بعض الحلويات فيزيد عليها من عنده دون مقابل، ويهدى حسن وأحمد وعادل ويوسف أنواعًا أخرى.
كنت أتمنى أن أكون ولدًا لأحظى بما يحظون به.
***
كنت أخشى في وقت لعبنا أن ينادى على حسن، فيغيب عنى، على رغم أنه كان يعود لي محمَّلًا بالحلوى، ولكن بذلك الشرود الذي يعود به، فينظر لي معتذرًا عن عدم إكمال اللعب معي... ثم أجد في الحلوى عوضًا عن غيابه.
لم نكن ننتبه في البداية عندما كان يغيب عنا فرد في اللعب لنصف ساعة أو أكثر عند «عم كامل».
يختفيان بالداخل... قد يغلق خلالها عم كامل إحدى ضلفتي الدكان بحجة الصلاة، أو ترتيب بعض الأرفف.
كانوا كلهم يخرجون من عند عم كامل مُحملين بكثير من الحلوى، لكنهم يعتذرون عن إكمال اللعب،أو يتغيبون بلا عذر... ربما لكي لا نشاركهم في التهامها.
خرج أحمد واجمًا، وحسن مصفر الوجه، وخرج عادل مهرولًا إلى بيته يغلق زرَّ بنطاله، بينما خرج يوسف باكياً، ولم يخبرنا هل ضربه ذاك الرجل الكريم؟
***
منعتني أمي من نزول الحارة للعب مع الأولاد فقد رأت أنني كبرت على ذلك وبدأت في شراء أكوام من قمصان النوم والقماش وأطقم السرير من «أم نورا» الدلالة، ومثلها فعلت نساء الحارة مع بناتهن.
تداول صبية الحارة نفس المكان، كلما شبّت مجموعة عن الطوق حلت محلها أخرى، يحظى الأولاد منهم بمزيد من الحلوى.
انقطعت حلوى حسن، وانقطعت خطاباته التي كان يدسها في يدي خفية عن أعينهم، ولا أعرف لماذا أصبح خجولًا منطوياً...كسيراً!
***
بنا عم كامل زاوية يصلى فيها أهل الحارة فازداد في أعينهم تقديرًا، ثم أتى بمُبرد مياه كان حديث الحارة.
ضرب أحدهم ابنه حين قال: عم كامل «راجل وحش»
صاح فيه: «يا ابن الكلب عم كامل خيره على أهل الحارة»
***
تخّرّج حسن من المعهد، ولم يتقدم لخطبتي، وتخرج عادل ولم يتزوج حبيبته، ولم يكمل يوسف دراسته ولم يتمم وعده لأمل.
انتظرناهم جميعاً... ولم يأتوا.
انقطع عنى حسن تمامًا... سافر عليّ... هاجر عادل دون أن يوّدع ماريان.. أطلق أحمد لحيته وانعزل عن الجميع.
ممن يتزوجن بنات الحارة إلا من أبنائها؟
خلتْ الحارة من شبابها وكثرتْ عوانسها.. وانقطعت أم نورا عن القدوم لحارتنا فقد أصبح لدينا «شوارا» يكفى لأن نعمل جميعنا دلالات.
اكتأبت هند، وباعت كريمة جسدها لعجوز ثرى، ثم طُلقت وعادت دون أطفال، أما أنا فمازلت أطل من شرفتي بعدما سئمت الوقوف على ناصية الحارة في انتظاره.
***
مات عم كامل... وحزنت الحارة كلها لرحيله.
حمل نعشه عشرة من عجائزها، فقد خلت الحارة من شبابها.
بنى أهل الحارة مقامًا لعم كامل ذلك الرجل الكريم الذي كان يتنازل عن ديونهم، ويغدق بحلواه على أبنائهم.
أصبحت الحارة عاقرًا، تخرج منها النعوش، ولا تحمل فيها البطون... انتظرت نسلًا لم يأت بعد، ولم يعد هناك أولاد يلعبون تحت شرفتي.
اقتصرتْ الحارة على...
عوانس يطلن من الشرفات...
ودراويش يرتادون المقام...
وشباب لم نرهم إلا شيباً.
نشكر كاتب القصة, لم يجعل عم كامل خبيث في النهاية.
قصص الخيانة والخبث والغش والقتل هي السائدة هل الايام حتى في قنوات الدول الاسلامية ليقتدي بها الشباب