يبرز الجنون بالتعاطي المباشر معه، أو النظر إليه، باعتباره انفصالاً عمَّا يدور في الحياة، ويشكِّلها، ويسهم في تقدُّمها وحتى تأخرها. نقف على معنى الجنون لغة واصطلاحاً، في «لسان العرب»: «جن الشيء، يجنه، جناً: أي ستره، وكل شيء ستر عنك فقد جنَّ عنك، وسمي «الجن» بهذا الاسم لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار. والجنَن ـ بالفتح ـ هو القبر لستره الميت، ويطلق على الكفن للمعنى نفسه، والجنين يطلق على الولد في البطن لأنه مستور.
تُقاس درجات التعاطي مع الجنون، والنظر إليه تبعاً للمجتمعات التي يبرز فيها. المجانين لدينا يُتركون هائمين على وجوههم في الشوارع، والقليل منهم من يحظى بفرصة إيواء، لن يخرج منه في أحسن حال، وذلك هو الغالب، وبعض الذين كانوا يعانون من جنون عارض، تفاقمت حالهم بعد دخول دُور الإيواء، وباتوا ينتظرون رحيلهم عن هذا العالم وعلى مضض. ذلك واقع لا نبالغ فيه، ولا نتجنَّى عليه.
ما الذي يدفعنا إلى مثل هذه الرؤيا؟ إذا كان أصحاب العقول لا وزن كبيراً لهم في بعض مجتمعاتهم، ولا ينجون من تسفيه وتسخيف وحتى تهميش، فمن باب أولى أن يتم النظر والتعامل مع المجانين باعتبارهم عبئاً وسبَّة وعاراً. ربما لأن المجنون لا شيء يحول بينه وبين الجهر بما يراه ويعتقده، وإن ظل عرضة للتهكم والسخرية. أصحاب العقول سيحسبون ألف حساب لهذه المسألة.
لا تتوجه هذه الكتابة إلى الجنون الذي ينتج عنه «عدم القدرة على السيطرة على العقل»، بقدر ما تتوجَّه إلى الذين تم التعامل معهم باعتبارهم مجانين، أو ممن صدرت عنهم مواقف أو سلوكيات جعلت من السهل على الذين من حولهم نعتهم بالجنون، أو تقرير تلك الحال من قبل جماعات أو أفراد أو حتى جهات صاحبة سطوة ونفوذ. أحياناً يأتي مثل ذلك التقرير من قبل جماعات أو أفراد لا يمتلكون معشار ما يمتلكه الذين يُوصمون بالجنون.
كثيراً ما تبدو التصرفات والسلوكيات ضرباً من الجنون، يقوم بها بعض البشر تحرراً من «الضابط» الذي يسيِّر ويمتثل له الجميع؛ حيث يأتي ذلك على شكل تصرُّف أو قول أو موقف، لكنه في النهاية لا يمثل ضرراً أو تهديداً للمجموع البشري، وإن طال الضرر صاحبه. لكنه يظل ضمن التصنيف الظاهر، والأحكام الجاهزة. تكشف بعض تلك التصرفات عن مواقف مبهرة ومدهشة، وتكتنز بالكثير من العبقرية.
هل نبدأ بالمخرج والسيناريست الألماني العالمي فيرنر هيرتزوغ؟ الذين تابعوا ما كتبه وعلَّق عليه وما أجاب عنه في لقاءات صحافية عديدة، سيقفون على الكثير مما يشبه الجنون، خذ قصته مع صديقته المؤرِّخة السينمائية الألمانية لوته آيزنر، تلك التي حدثت تفاصيلها في العام 1974، حين تلقَّى هرتزوغ اتصالاً يخبره أن آيزنر تُحتَضَر في باريس. هزَّه النبأ، ولكي يعمل على تأخير موتها توصَّل إلى فكرة السيْر من ميونيخ إلى العاصمة الفرنسية (باريس)، في رحلة استغرقت 22 يوماً، وكل ما حمله معه عبارة عن: معطف وبوصلة وحقيبته. مع بلوغه منزل صديقته قال لها: «افتحي النافذة. منذ هذه اللحظة وما بعدها، سيكون بإمكاني أن أطير».
وحادثة هي الأشهر تلك التي تتعلق بخسارته رهاناً أمام المخرج الأميركي إيرول موريس في العام 1978؛ حيث قام بطهي حذائه وأكْله؛ وتم توثيق تلك الحادثة في العام 1980، من خلال فيلم قصير أخرجه لِس بلانك بعنوان «فيرنر هرتزوغ يأكل حذاءه».
أعظم عقل رياضي في التاريخ البشري ألبرت آينشتاين، بدر منه ما يوحي بأن الرجل لا يخلو من جنون؛ إذ كان يكره النظام في حياته، ويُروى أنه غادر مختبره يوماً وترك على الباب العبارة الآتية: «غير موجود الآن وسأعود بعد قليل»، وبعد عودته قرأ العبارة نفسها وقال: «حسناً سأعود إليه بعد قليل»!
وهنالك الروائي والكاتب المسرحي والناقد الأدبي أونوريه دي بلزاك (20 مايو/ أيار 1799 - 18 أغسطس/ آب 1850)، والذي أنجز أكثر من تسعين رواية وقصة قصيرة، ومئة قصة فكاهية، وروايات نُشرت بأسماء مستعارة، كان يسجِّل أرقام المنازل أثناء سيْره في الشارع على ورقة ليقوم بجمع الأرقام فإذا كان المجموع مضاعفاً للرقم 3 ينتابه فرح شديد، وإذا لم يكن المجموع كذلك لا يعود إلى السير في الشارع نفسه!
ويظل أشهر عقلاء المجانين في تاريخنا العربي والإسلامي، أبو وهيب بهلول ابن عمرو ابن المغيرة (البهلول)، ممن عاصر الخليفة العباسي هارون الرشيد، يروي عنه محمد بن إسماعيل بن أبي فديك، قال: رأيت بُهلولاً في بعض المقابر قد دلَّى رجله في قبر وهو يلعب بالتراب. فقلت له: ما تصنع ههنا؟. قال: أجالس أقواماً لا يؤذونني، وإن غبت عنهم لا يغتابونني. فقلت: قد غلا السعر فهل تدعو الله فيكشف؟ فقال: والله ما أبالي ولو حبة بدينار، إن الله قد أخذ علينا أن نعبده كما أمرنا، وعليه أن يرزقنا كما وعدنا».
لن نتحدث عن مجانين يعبثون بهذا العالم. مجانين لا يخضعون لرقابة في مراكز إيواء. عن مجانين من طراز هتلر وموسوليني وهيروهيتو وجورج دبليو بوش الابن والمقبور صدام حسين ومشتقاتهم. مجانين حوَّلوا ما تبقى من نظام في هذا العالم إلى فوضى، ويُراد لها أن تكون فوضى خلَّاقة. لن نتحدَّث عن مجانين محصنون، للقيام بفنون جنونهم أينما كانوا. مجانين لا إنتاج أو مُحصِّلات تعود بالنفع على البشر من حولهم.
ولعل مقولة توماس تريون المعمداني، فيها توصيف دقيق لما نحن بصدده: «إن العالم عبارة عن مستشفى مجانين كبير؛ حيث يقوم الناس الأكثر جنوناً باحتجاز من هم أقل جنوناً». إنهم المجانين زُوراً في الأرض!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 5101 - الأربعاء 24 أغسطس 2016م الموافق 21 ذي القعدة 1437هـ
مقال رائع جدا.
المجانين هم اكثر عقلا من العقلاء ✌????️
مقال مميز عن الجنون الآخر