نعم أصبح «البوركيني» في الغرب قضية سياسية ساخنة بامتياز، لماذا وكيف؟ هذا ما يكشفه جدل الإعلام الغربي، لكن قبله ذلك، ما «البوركيني»؟
«البوركيني Burkini» كلمة مشتقة من كلمتي «برقع وبيكيني»، هو نوع من ملابس السباحة المطاطية لا أكثر ولا أقل، يغطي جسم المرأة من أعلى الرأس ما عدا القدمين واليدين، وقد لقي رواجاً كبيراً عند مسلمات الغرب.
تفيد مصممته الاسترالية، اللبنانية الأصل، أهيدا زانيتي بأنها صممته لنفسها قبل عشر سنوات لشعورها بحرج أثناء نزولها الشاطئ، فهي مسلمة ولا تريد الظهور نصف عارية أمام السابحين، وخصوصاً أن ارتياد الشاطئ وركوب الأمواج والتعرض للشمس تمثل جزءاً من الثقافة الاسترالية، فتحت لها متجراً حتى بلغت مبيعات شركتها العام 2008 (5 ملايين دولار) وزودت به تجار جملة في الغرب والشرق. بعد ضجة وسجال «البوركيني» تقول: «إنه يشكل أداة اندماج للمسلمات المتدينات يتيح لهن التمتع بالسباحة، وثمة غير المسلمات يستخدمنه؛ تحسباً لأشعة الشمس الحارقة وتجنب الاسمرار... إنه مجرد كلمة، استخدمها الساسة الفرنسيون كمصطلح سلبي إسلامي، واختراعها كان لتسمية منتج، ولا نخفي قنابل تحت اللباس، ولا يستخدم في تدريب إرهابيين، وغرضه تلبية حاجة محددة».
البوركينى والإرهاب
غضب الساسة الفرنسيين من «البوركيني» لم يأت اعتباطاً، فهو قضية حساسة في نظرهم منذ حظر إرتداء النقاب في فرنسا العام 2010، وبعد تنامي عداء بعض الأحزاب والحركات المتطرفة تجاه المسلمين وتدفق اللاجئين فضلاً عن الهجمات الإرهابية التي هزت أوروبا عامة، وما نفذه متطرفون من تفجيرات وإطلاق النار في باريس قتل فيها «130 فرداً» (نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي)، وهجوم الشاحنة في نيس في (14 يوليو/ تموز) الذي تبنته «داعش» ومقتل الكاهن دبحاً داخل كنيسته بالنورماندي، ونشوب شجار بين أسر مسلمة وشبان في منتجع في «سيسكو» بكورسيكا بعد التقاط سائح صوراً لنساء يرتدين «البوركيني»، كل ذلك كفيل بجعل «البوركيني» قضية سياسية.
بلديات فرنسية متعددة وغالبيتها ينتمون إلى اليمين اتخذوا قراراً بحظر ارتداء «البوركيني الإسلامي» على الشواطئ التابعة لبلدياتهم، وعلى رغم دعوة الحكومة لتهدئة التوترات بين الطوائف المختلفة فإنها دافعت عن قرارهم، حيث عبر رئيس الحكومة قائلاً: «إن الشواطئ ككل الساحات العامة يجب أن تكون خالية من المظاهر الدينية، والبوركيني ترجمة لمشروع سياسي ضد المجتمع، ومسألة منعه لا يتطلب تعديلاً للتشريع الفرنسي».
أما عمدة مدينة «كان» السياحية والفنية، وأفخر المدن الفرنسية، فقد وقع قراراً بمنع ارتدائه وأعلن أن»البوركيني» لا يحترم الأخلاق الحميدة والعلمانية، ولا يتماشى وعاداتها وقيمها التي تمثل أسس الدولة، إنه يشي بميول الشخص الدينية، وقد يشكل تهديداً للأمن العام في ظل الظروف الأمنية الحالية وخصوصاً أن المواقع الدينية غدت هدفاً للجهمات الإرهابية».
كما ذكر رئيس بلدية سيسكو أنه «غير مقبول والناس يشعرون بالاستفزاز نحوه...»، فيما قالت عمدة ضاحيتين في مارسيليا: «إن تغطية النساء يعارض الكرامة الإنسانية، وفرنسا دولة علمانية يحاول مواطنوها الحفاظ على القيم العلمانية في مجتمع متعدد الثقافات إلى حد بعيد»، وحتى وزيرة حقوق المرأة الاشتراكية أيدت الحظر وقالت: «البوركيني ليس موضة، إنما النسخة الشاطئية من البرقع وله نفس المنطق في إخفاء جسم المرأة للسيطرة عليها بدرجة أكبر، وإن إثارته للتوترات على الشواطئ بسبب بعده السياسي، فهو رمز لمشروع سياسي معاد للتنوع ولتحرير المرأة».
في السياق خلصت «الفايننشال تايمز» إلى أن فرنسا منقسمة على نفسها ومتناقضة بسبب «البوركيني» الذي أصبح قضية سياسية ساخنة، وأحدث ساحة قتال في النقاش حول الاندماج والعلمانية والهوية، ولاسيما ومعارضوه يرونه مناهضاً لقيم العلمانية الفرنسية ومهدداً للأمن والنظام العام... لقد صار تأثيره بالغاً مع اقتراب انتخابات الرئاسة وبعد هجمات المتطرفين الإسلاميين، وقد اغتنمه جميع ساسة التيارات السياسية كفرصة لإعلان مبادئهم العلمانية الصارمة».
تذبذب أوروبي
لاشك أن ارتداد الإرهاب يمثل حالة سياسية لا يمكن تجاهلها، ولاسيما مع تأكيد تقارير دولية مغادرة الجهادين الأجانب من سورية باتجاه بلدهم الأم في أوروبا التي تتزامن فيها حملات المزايدة حول السياسة الأمنية والاندماج وتنامي «الإسلاموفوبيا».
وتتباين المواقف بشأن التطرف الإسلامي، فنجد ألمانيا تتأهب لإصدار قانون يحظر النقاب كإجراء وقائي وتحاول تمريره قبل الانتخابات القادمة للتخلص من ضغوظ الجماعات العنصرية، فقد عبر وزير داخليتها عن عدم تأييده حظراً كاملاً للنقاب، ومؤكداً ضرورة الكشف عن الوجه في مكاتب الأحوال المدنية والمؤسسات الحكومية، بيد أنه اعتبر النقاب جسماً غريباً والمسألة ليست أمنية بل دمج... ويتعين التشديد على من يفتقد الوثائق».
وفي إيطاليا قرر عمدة إحدى بلدياتها فرض غرامة 500 يورو على إحدى المخالفات وقال: «إن رؤية نساء مقنعات يزعج الأطفال ناهيك عن المشاكل الصحية العامة»، فيما ذكر برلماني أن «ارتداء امرأة غربية للبيكيني في حوض سباحة بدولة إسلامية سيؤدي إلى قطع رأسها أو السجن أو الإبعاد، بينما نكتفي نحن بمنع استخدام البوركيني فقط»، وحيث خلص استطلاع رأي إيطالي إلى أن (76 في المئة) من الإيطاليين يعارضون ارتداء «البوركيني» فإن وزير داخليتهم أعلن أن «بلاده لن تحذو حذو فرنسا، وأن دستورهم يضمن حرية العقيدة، ويجب الحذر من تحول الإجراءات إلى استفزازات قد تؤدي إلى عمليات إرهابية، ولا يمكن اعتبار نصف مليون مسلم في إيطاليا إرهابيين أو داعمين للإرهابيين».
أما في البلدان الانجلوسكسونية فقد انتقد الموقف الفرنسي واعتبره البعض مجرد «هذر فرنسي نابع من نفوس مريضة... ويثير المزيد من المشاكل، كما وجد آخرون أن تباين الموقف البريطاني عن الفرنسي له علاقة بالفوارق الثقافية بين البلدين وبين سياسة الاستيعاب في فرنسا والتعدد الثقافي البريطاني»، فيما وجده بعض الاستراليين «هجوماً على الأقليات»، ونددت كاتبة منهم بأنه «بات على النساء ليس التعامل فقط مع النزعة الذكورية الموجودة في مجتمعاتهن بل أيضا مع القوة الفظة للدولة».
تناقض عربي
في عالمنا العربي الغارق في وحل الصراعات الطائفية والإثنية، عبر موقع مغربي عن استيائه من «أن ما يحدث منعطف خطير نحو التضييق على الحقوق المكتسبة للمسلمين في فرنسا وتراجع يمس الحقوق الفردية للأقليات بسن قوانين تدعم المواقف العنصرية وتلغي التعددية... والمنع يقدم هدية للمتطرفين، والتطرف يولد تطرفاً آخر وهو يعارض مبدأ الحرية الدينية الذي تكفله الدساتير الأوروبية».
وعلى مستوى الأفراد جاءت ردود الفعل متناقضة ومعبرة عن اتجاهات سياسية وثقافية متباينة، إذ وجد بعضها أحقية أوروبا في حماية ديمقراطيتها وحياتها العلمانية وحريات أفرادها بسن هذه القوانين والحماية ليست موجهة ضد الإسلام، وخصوصاً أن معظم الملتحقات بداعش من مسلمات أوروبيات أو عربيات كن منقبات والمشكلة بنظرهم ليست في أوروبا إنما بمن يريد تجاوز قوانينهم وفرض نفسه بطريقة مغايرة ومتشددة في المجتمعات المتحررة، فهناك دول عربية تفرض على الأجنبيات لبس الحجاب وتغطية شعرهن وارتداء اللباس المحتشم بحسب عاداتها وتقاليدها، فلماذا لا ينظر إلى الأمر بالمثل، بينما وجد المناوئون لهم أن المنع يعكس نظرة غير متسامحة عن الإسلام، وتساءل أحدهم مستغرباً ومستهجناً ارتياد المبرقعات للشواطئ الأوروبية التي تسمح بالتعري وإصرارهن على السباحة بالبوركيني بين العراة في الشواطئ، فهذا ليس لائقاً بنظرهم، وهن لا يتجرأن بل وغير مسموح لهن السباحة بشاواطئ دول عربية التي أصلا لا يوجد بها تعرٍّ.
ختاماً يبقى المايوه الشرعي «البوركيني» ليس ذا مشكلة عويصة تواجه النساء في مجتمعنا المحلي الذي تكاد تغيب فيه الشواطئ المهيأة للسباحة بسبب استيلاء الأقلية والمتنفذين عليها، وتندر فيه أماكن الترفيه المتاحة للمواطن العادي، ناهيك عن قناعة غالبية النساء بتغطية أنفسهن وما تعانيه فئات أخرى من قيود اجتماعية تفرض عليهن بداوعي احترام التقاليد والالتزام والتعفف، نعم «البوركيني» قضية سياسية ساخنة في الغرب لأنها تمس الهوية وقيم العلمانية التي ترتكز عليها الدولة الديمقراطية الحديثة، أما عندنا فلا اعتبار له ولا حاجة اجتماعية ملحة ولا قضية سياسية ولا يحزنون.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 5100 - الثلثاء 23 أغسطس 2016م الموافق 20 ذي القعدة 1437هـ