في غرفة مظلمة، قلَّما يتسلل إليها ضوء الشمس، وعلى سرير خشبي يقبع تحت بؤرة ضوء خافت، يرقد الجد طريح الفراش بعد أن سكنت حركته منذ خمسة أعوام فوق الثمانين. الغرفة هادئة كمتحف قليل الزوار، لا يفعل فيها سوى ثلاثة أشياء في اليوم، إما النوم أو مراقبة وميض شاشة التلفاز الذي لا يسمع له صوت، أو النظر برتابة إلى صورته المعلقة على الحائط والتي جمعته مع أحد أبنائه حاملاً إياه على كتفيه. يحاول أن يجتر خيط ذكرياته من خلال هذه الصورة، لكن سرعان ما ينقطع دون جدوى فينصرف إلى هرش لحيته بأظافره الطويلة المهملة، ليعبث بها قليلاً فيتركها. يلتفت ببطء إلى التلفاز فالمشاهد هي المشاهد، مدافع ودبابات تتجول وسط مدن مهجورة ومباني منهارة، فيعيد النظر إلى الحائط حيث صورته المعلقة، فهي أقل رتابة بالنسبة له. تدخل إليه إحدى حفيداته بمبخرة من الفخار لتضعها تحت سريره، فاليوم هو ميعاد حفل زفاف شقيقتها، وربما يأتي بعض الزوار لرؤية الجد، فلا بد من تلطيف جو الغرفة. تمتلئ الغرفة بسحب الدخان فتحجب عنه رؤية وجهه المطل من الحائط فيصبح المنظر ضبابياً وموحشاً حيث لا يجد شيئاً ليضع عليه عينيه الهائمتين، فيقلبهما في الفراغ ريثما يتلاشى الدخان. في الخارج تتعالى أصوات الموسيقى وضحكات المدعوِّين، وروائح العطور تطغى على رائحة البخور في الداخل، تنعكس أشعة المصابيح على طبقات الدخان فيستمتع قليلاً برؤية طيفها. تمضي لحظات فيغمض عينيه ليهيئ نفسه للنعاس، وفي الأثناء ينقطع الدخان عن الانبعاث من فوهة المبخرة، فيشعر بقليل من الدفء ثم يزداد رويداً رويداً ليتحول إلى حرارة شديدة يشعر بها، يفتح عينيه لكنه لا يستطيع سحب ساقيه حيث اللهيب الحارق، فأعواد البخور قد اشتعلت والتهمت أطراف الملاءة. حاول أن يخرج صوته بصعوبة بالغة لمناداة أحدهم، لكنه لم يستطع أن يُسمِع نفسه مع صخب الموسيقى وهدير المحتفلين. لم تستغرق النار وقتاً طويلاً في القضاء على جسده المنهك والراكد منذ أعوام، فتحول إلى كومة من الرماد، تاركاً الدنيا دون أن يكلف أحداً عناء غسله أو حمله على النعش.
! رائع !
الاسلوب جميل .. تمنيت لو ختمها بنظرة للصورة وكأنها شريط الحياة قبل الممات
جميلة
هذا انيس النار او حريق النار - قصة ماساوية من صباحة الله خير والله يرحم الجد