مثلما لا يتورع كثرة من قادة دول العالم، الديمقراطية منها والشمولية على السواء، عن استخدام أحط صور الممارسات المكيافيلية اللاأخلاقية من انتهازية وكذب ونفاق وديماغوجية في ميدان العمل السياسي العام، فمن باب أولى أن يكونوا كذلك في ميادين الحروب حيث لا يتوانى قادتهم العسكريون والجنود المؤتمرون بأوامرهم عن ارتكاب شتى صنوف جرائم الحرب. ومن نافلة القول ألا يتورع ضباط وشرطة الأمن في مراكز التحقيق عن ترجمة ذات النهج مع الخصوم السياسيين حتى لو كانت تحظره نظرياً في دساتيرها وتشريعاتها مادامت صُممت كديكورات ورقية لا تشل قدراتها في العمل على عكسها.
لكن مهما كانت أعداد الضباط والجنود والمقاتلين خلال الحروب المتورطين في مثل تلك الممارسات الحاطة بالكرامة الإنسانية كبيرة فقد سُجلت حالات غير قليلة منهم تُعاني مما يُعرف بـ «اضطرابات ما بعد الصدمة»، والتي تحدث عادةً بعد أن تحط الحرب أوزارها، فيدمن الكثير منهم على المهدئات ويتلقون العلاجات في العيادات والمستشفيات النفسية، لكنها قلما تنفع، إذ تظل حالات عذابات الضمير المؤرقة وهلوسات النوم والكوابيس الليلية والتقوقع على الذات والعزلة عن المجتمع، كلها أعراض لاضطرابات ما بعد الصدمة تلازمهم طوال ما تبقى حيواتهم. وهذا بالضبط ما تعرّض له، على سبيل المثال، محاربون ومقاتلون خدموا في الجيش الأميركي خلال احتلاله وحربه على الشعب الفيتنامي.
كانت اليابان وفيتنام مسرحين لأكبر جرائم حرب وحشية بشعة يُندى لها جبين البشرية ارتكبتها الولايات المتحدة بحق شعبيهما في عصرنا. فالأولى ألقت على إحدى مدنها «هيروشيما» في أواخر الحرب العالمية الثانية أول قنبلة نووية لتصهر عشرات الألوف من سكان المدينة وعمرانها في دقائق معدودة. ولتتبعها بعد ثلاثة أيام بقنبلة ثانية على «ناجازاكي». أما الثانية، فيتنام، فقد كان من أبشع ما فعله الجيش الأميركي بحق شعبها المسالم المُعتدى عليه رشه مادة كيماوية حارقة من الجو على مساحات شاسعة من غاباتها الجميلة ومزارعها عُرفت باسم «العامل البرتقالي»، بغية تجريد أشجارها من أوراقها لكشف ثوار «الفيتكونج» المختبئين في الغابات. لكن هذا السلاح الكيماوي الرهيب لم تتضرر منه أشجار الغابات والمزارع والتربة والمياه فحسب، بل طاولت أضراره المهولة والقاتلة أعداداً هائلة من القرويين الفيتناميين الفقراء.
وبالإضافة إلى «العامل البرتقالي»، يعترف أحد المحاربين الأميركيين الذين شاركوا في حرب فيتنام: «لقد أسقطنا أكثر من 8 مليارات رطل من القنابل على فيتنام بما بما يُعادل أربع مرات القنابل التي أسقطناها خلال الحرب العالمية الثانية، وبما يوازي 600 قنبلة من نوع القنبلة التي أسقطناها على هيروشيما». دع عنك مختلف الأسلحة الفتّاكة التي اخترعتها أميركا وجعلت من فيتنام ميدان تجارب فعلياً لتجريب مفعولها الوحشي على البشر، وكان من ضمنها سلاح «النابالم» المحرّم دولياً. أما الممارسات الإجرامية اليومية على أيدي قوات الاحتلال بحق هذا الشعب على أرضه فحدّث ولا حرج، فهي بحاجةٍ إلى مسلسل طويل من الروايات والشهادات الموثقة التي لم يُسجل منها سوى القليل.
ولعل الفيلم الوثائقي الأميركي «شفاء قلب جندي» للمخرج ستيفن أولسون من الأفلام النادرة البالغة الأهمية لتوثيقه جرائم الحرب البشعة التي ارتكبها الأميركيون بحق الشعب الفيتنامي بغية كسر عزيمته الجبارة في الدفاع عن وطنه وطرد المحتلين الغزاة. وتكمن أهمية الفيلم في أن عملية توثيق جرائم الاحتلال تُروى هذه المرة على ألسنة مجموعة من المحاربين الأميركيين أنفسهم الذين ارتكبوها بعد أن عانوا طويلاً من «اضطرابات مابعد الصدمة». فبعد مرور 37 عاماً على تكلل ملحمة كفاح الشعب الفيتنامي الأسطورية والمسلح بأسلحة بسيطة بالانتصار المؤزر على أقوى جيش في العالم مسلح بأحدث الأسلحة الفتّاكة، حزم أفراد تلك المجموعة أمرهم وقرّروا العودة إلى فيتنام مصطحبين معهم زوجاتهم لعلهم يمحون عار ما ارتكبوه من جرائم من خلال زيارة بعض الأماكن التي كانت مسرحاً لها والالتقاء مع الناس البسطاء المتضررين وأهالي الضحايا. وحملوا معهم مساعدات رمزية للأهالي والقرى التي نُكبت بعدوان جيشهم الذي خدموا فيه: ملابس وأدوات قرطاسية، وألعاب أطفال وإسعافات أولية.
وخلال رحلة العودة قدّموا توسلات إلى الأهالي الذين التقوا بهم لقبول اعتذاراتهم وهم يبكون بحرقة وألم شديدين لدى استذكارهم عند مرورهم بكل بقعة تشهد على ما اقترفته أيديهم من جرائم بحق أهاليها، لكنهم وجدوا الناس الطيبين هناك ليسوا بحاجة لتلك التوسلات فقد تقبلوا اعتذاراتهم بكل بساطة، رغم كل ما عانوه طويلاً من المحنة والعذابات التي أنزلتها دولتهم العظمى بشعبهم الطيّب الفقير، بل مازالت بقايا آثارها ممتدة إلى يومنا.
المحارب «بوب» هو أكثر أعضاء المجموعة تأثراً ومعاناةً من «اضطرابات ما بعد الصدمة»، حيث سجّل له المخرج عدة مواقف في غير مكان بكى فيها بكاءً مريراً حارقاً تخللته صرخات هستيرية صدرت من أعماق روحه بلا وعي. وهو يسأل المقاتل الفيتنامي المُسن «تايجر» الذي شارك في النضال ضد ثلاثة احتلالات أجنبية متعاقبة لبلاده، الياباني والفرنسي والأميركي، ماذا بوسعه أن يعمل ليتطهر من تلك الآثام التي اقترفها بحق الفيتناميين ليشفى من عذاب الضمير المُزمن الذي يمزقه، مُغبطاً المقاتلين الفيتناميين الذين لم يعانوا تلك الاضطرابات، فيرد عليه المناضل الفيتنامي المُسن: «إن معاناتك سببها أنك حاربت خارج وطنك، ليس دفاعاً عنه وبلا قضية».
وفي مكان آخر يذّكره أحد الفيتناميين البسطاء بمبدأ السببية، والتي تعنى لدى البوذيين أنك إذا ارتكبت بحق شخص ما إساءةً وشعرت بالندم من ذلك، فعليك أن تصلي من أجل نفسك بنية صافية وتفتح قلبك لمحبة الناس. فيما يحاول فيتنامي في مكان ثالث أن يخفّف عنه من روع صدمة الندم والإحساس بالخزي والعار لما ارتكبه من جرائم الحرب في المكان بالقول: «المجرمون الحقيقيون ليسوا أنتم الجنود المنفذين بل قادتكم السياسيون الأميركيون».
وكانت أقل جريمة ارتكبها بوب وعدد من رفاقه بحق الفيتناميين ممارستهم التسلية اليومية بقتل «أعداد لا تحصى»، حسب تعبيره، من جواميس الفلاحين حينما كانوا على البارجة الحربية التي كانوا يستقلونها. وقدّم اعتذاره للفلاحين الذين تضرّروا من تلك الجريمة فيما أصابعه تمسح بحنانٍ على رؤوس قطيع من الجواميس في إحدى القرى وهو يستذكر تلك الجريمة وكأنها وقعت للتو.
وإذ تكللت رحلة مجموعة من المحاربين الأميركيين إلى فيتنام بالنجاح، والتي عادوا إلى بلادهم منها شبه متعافين وسرعان ما شُفوا من اضطرابات ما بعد الصدمة وتمكنوا من أن يبدأوا حياة طبيعية جديدة لتمضية بقية أعمارهم بعد تلك التجربة المريرة التي ورطتهم فيها حكومة بلادهم، فلماذا لا نسمع في عالمنا العربي عن تجارب لضباط تحقيق وجلادين عانوا من اضطرابات ما بعد الصدمة وحاولوا كالأميركيين أن يتطهروا من آثامهم؟ ومن المفارقات أن باراك أوباما هو أول رئيس أميركي زار كلا البلدين، اليابان وفيتنام، قبيل شهور قليلة من انتهاء ولايته، لكنه لم يجد أية غضاضة في أن يزورهما وقد ارتكبت بلاده في كليهما كل تلك الجرائم الحربية، بدون تقديم اعتذار ولو مقتضب شكلي لحكومتي أو شعبي البلدين. ولا غرو في ذلك، فلم يُحدّثنا التاريخ قط أن صنّاع قرارات شن الحروب الظالمة وما يتخللها من جرائم بشعة، قد عانوا من اضطرابات ما بعد الصدمة، أو اعتذروا للبلدان التي شُنت عليها تلك الحروب أو تعرضت لاحتلالاتهم، دع عنك إقرارهم بحقها في التعويضات المادية والمعنوية .
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5099 - الإثنين 22 أغسطس 2016م الموافق 19 ذي القعدة 1437هـ
هل يعاني الرؤساء اضطرابات ما بعد الصدمة؟
ما اعتقد
لماذا لا نسمع في عالمنا العربي عن تجارب لضباط تحقيق وجلادين عانوا من اضطرابات ما بعد الصدمة وحاولوا كالأميركيين أن يتطهروا من آثامهم؟
هذا السؤال قد تكون إجابته خطيرة جدّا على الحقيقة..