لايزال المجتمع الدولي يبحث في سبل تعزيز الحقوق والحرّيات، سواء ما هو موجود منها، أي «مقنّن»، لوضعه موضع التطبيق أو تطويره ليتواءم مع التطوّر الدولي في هذا الميدان، أو ما يتم النقاش بشأنه لإيجاد قواعد جديدة لرفد القواعد النافذة، بتوسيع دائرة الاعتراف به، وتعميم الاحترام له على أساس القبول بالآخر، والإقرار بالتعدّدية والتنوّع.
وبغضِّ النظر عن مصالح الدول، وخصوصاً الكبرى، الأنانية الضيقة، ومحاولاتها تطبيق تلك المبادئ على نحو فيه ازدواجية بالمعايير وانتقائية بالممارسات، فإن التطور الفقهي - النظري يبقى عامل إثراء، لأن حاجات الإنسان وتطلّعاته لا حدود لهما، مثلما هي حقوقه وحرّياته التي تتطوّر وتتقدّم تاريخيّاً.
ثلاث مناسبات تتعلّق بثقافة الاحترام تدعوني للكتابة:
أوّلها: في (9 - 10 يناير/ كانون الثاني 2016) حضرت مع نخبة متميّزة اجتماعاً لمناقشة موضوع «الحق في التضامن الدولي»، وذلك بالتحضير لمشروع قرار كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة تنوي وضعه بعد الاستماع إلى رأي الخبراء. والهدف هو رفد القواعد العامة لميثاق الأمم المتحدة، وتعميق محتوى القانون الدولي المعاصر، والقانون الدولي الإنساني بهذا المبدأ الجديد.
والتأم الاجتماع في الدوحة، وضمّ نحو 20 - 25 خبيراً وموظفاً دوليّاً، عمّقوا الفكرة وناقشوا ضماناتها والعقبات التي تعترض طريق تطبيقها على المستوى الدولي، وميّزوا بينها وبين موضوع التدخّل بالشئون الداخلية، وبينها وبين مسألة التدخل العسكري والحصار الدولي، وبينها وبين التدخّل لأغراض إنسانية. ومن المفترض أن تناقش الجمعية العامة في نهاية هذا العام التقرير الذي ستقدمه اللجنة المكلفة بمبدأ الحق في التضامن الدولي برئاسة فيرجينيا داندان Virginia Dandan المكلّفة ذلك.
وثانيها: في (10 - 11 فبراير/ شباط 2016) ناقش فريق خبراء موضوع تجديد إعلان القاهرة لحقوق الإنسان الصادر في (5 أغسطس/ آب 1990)، بدعوة من رئيس الهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان لمنظمة التعاون الإسلامي السفير عبدالوهاب، ورفعوا مجموعة توصيات للاجتماع الذي عقدته منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول (15 إبريل/ نيسان 2016)، وذلك ضمن محاولة لتطوير توجّه الدول الإسلامية وتكييفه لينسجم مع التطوّرات الدولية في مسألة حقوق الإنسان، مع مراعاة الخصوصية الثقافية.
المواءمة لا تستهدف إخضاع الخاص للعام، أو جعل الخاص يذوب في إطار العام، كما لا تستهدف بالطبع التحلّل من الالتزامات الدولية بحجّة الخصوصية؛ لأن قيم حقوق الإنسان واحدة ولا يمكن تجزئتها أو تفضيل قسم على آخر، أو التعامل معها بصورة انتقائية.
الخصوصية لا تعني الانغلاق والانعزال وعدم التفاعل مع الآخر، مثلما لا تعني الكونية إخضاع الآخر أو التسيّد أو فرض قيم الغير عليه، بزعم أنها القيم العالمية، فلكلّ مجتمع قيمه، وإنْ كانت هناك قيم عامة وشاملة وإنسانية تخص بني البشر، وهي التي نطلق عليها المشترك الإنساني، بغض النظر عن اختلافاتهم وثقافاتهم ولغاتهم وأصولهم العرقية وأديانهم واتجاهاتهم السياسية وأصولهم الاجتماعية.
وثالثها : اجتماع انعقد في باريس بدعوة من اليونسكو لمناقشة حق التعبير وحق الاحترام، وذلك في (17 - 18 مارس /آذار 2016)، والأمر يتعلّق بثنائية تبدو منسجمة بقدر ما هي مختلفة، والاختلاف والتمايز ناجم من مرجعيات مختلفة وتفسيرات متعارضة، فنظرة الغرب تختلف عن نظرة لاتزال سائدة في العالمين العربي والإسلامي، اللذين يفرّقان بين حرّية التعبير، وبين احترام المقدّسات والرموز الدينية، وعدم التجاوز عليها أو المساس بها، لأنها جزء من ذهنية شعوب المنطقة وتطورها التاريخي.
في العالمين العربي والإسلامي يُنظر إلى التجاوز على الرموز الدينية، باعتباره مساساً بالمقدّسات، في حين أن الغرب لا يعترف بمبدأ التقديس أصلاً، وإن كان يقدّس «حقّاً» أو فكرة أو مفهوماً، وبالتالي فهو يعتبر أي تناول للرموز الدينية يندرج في إطار مفهومه للنقد، وحرّية التعبير، الواردة في المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في حين أنها تثير حساسيات وردود فعل تصادمية في المجتمعات العربية والإسلامية، فما بالك إذا جاءت من ثقافات أخرى، تستهدف التسيّد.
إن استخفاف الغرب بفكرة «تقديس» الرموز الدينية، هو الذي كان وراء محاولات الإساءة للإسلام، تلك التي شهدت أشكالاً مختلفة من إلصاق التهم به، إلى الإساءة للرسول محمد (ص) من خلال الرسوم الكاريكاتورية في الدنمارك وغيرها. وقد ارتفعت وتيرة العداء والكراهية ضد الإسلام وقيمه السمحاء تحت عناوين مختلفة، من نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما إلى صدام الحضارات لهنتنغتون وغيرها، وتفشّت على نحو واسع لدى أوساط يمينية وعنصرية، وخصوصاً بعد هجمات (11 سبتمبر / أيلول الإرهابية العام 2001)، مصحوبة بالعداء للأجانب واللاجئين العرب والمسلمين منهم بشكل خاص. وفي الوقت الذي يرفض الغرب تقديس الرمز (الإنسان) يذهب إلى تقديس «حق»، والحق وإنْ كان «مقدّساً» ويفرض احترامه، فالرمز حسب الثقافة العربية والإسلامية السائدة لا ينبغي المساس به، وكل مساس يلحق ضرراً بالمشترك الإنساني.
وكان «الحق في الاحترام» مثار اهتمام شخصيات عربية وإسلامية تعيش في الغرب وبعضها يعمل في إطار منظمات دولية، الأمر الذي دعاها إلى مناقشة اقتراح ورد من السفير زياد الدريس، وبدعم من المجموعة العربية في اليونسكو بهدف تنظيم مشروع قرار بعد مناقشته مع مجموعة خبراء لتقديمه للمجلس التنفيذي للمنظمة، والذي تم اعتماده مؤخراً. وبحسب كلمة الدريس فإن الأمر استغرق 3 دورات وأكثر من عام ونصف، لوجود تحفّظات غربية عليه، وتلك مفارقة جديدة، فإذا كان المقصود بحق الاحترام: عدم الإساءة للغير، مثلما رفض إساءة الآخر، فلماذا يتم التحفظ عليه؟ وهو الأمر الذي يدعو إلى تعميم ثقافة الاحترام، ابتداءً من النشء الجديد وإلى الكبار، ومن التربية إلى الإعلام، للوقوف ضد التعصّب والتطرّف والفتن الدينية والطائفية بين الشعوب والثقافات.
إن حق الاحترام يشكّل خلفية لحقوق أخرى، مثل الحق في السلام، والحق في التعدّدية والتنوّع، والحق في التطوّر المستقل، والحق في الاستفادة من منجزات الثورة العلمية - التقنية، والحق في التواصل والتعاون الإنساني لإنماء الدول والشعوب، وهي حقوق مدوّنة في ميثاق الأمم المتحدة.
وهكذا نكون أمام ثلاثة مبادئ دولية جديدة هي:
أولها: الحق في التضامن الدولي.
وثانيها: الحق في التنوّع والتعددية.
وثالثها : الحق في الاحترام.
وجميعها تندرج ضمن المشترك الإنساني والتفاعل بين الثقافات والحضارات.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"العدد 5099 - الإثنين 22 أغسطس 2016م الموافق 19 ذي القعدة 1437هـ