توزيع العالم إلى «شرق» و «غرب» هو مسألة نسبية، ولا مضمونَ علمياً له على رغم اعتماد هذا التوزيع للتمايز الثقافي والسياسي بين دول العالم، أمّا على الجهات الأخرى، أي «الشمال» و «الجنوب»، فنجد تصنيفاً مختلفاً يعتمد على التمايز الاجتماعي والاقتصادي بين دول شمال الكرة الأرضية ودول جنوبها. هو تمايز يقوم على مستويات الفقر والثراء، وعلى مدى التخلّف والتقدّم في الحياة الاقتصادية ومثيلتها الاجتماعية.
فمازالت أدبيات من القرون الماضية تتحكّم في بعض تسميات الحاضر على رغم اختلاف الظروف والمعلومات ووقائع العصر الراهن. فتوزيع العالم بين «شرق» و «غرب»، و «شرق أدنى» و «شرق أوسط» و «الشرق الأقصى»، هي تسميات لحقب تاريخية ماضية، عِلماً بأنّه لا يجوز رؤية العالم بين «شرق» و «غرب» بحكم نسبية المكان على أرض كروية تسبح في فلك عظيم، كل مكان فيها هو «شرق» لجهةٍ ما و «غرب» لجهةٍ أخرى.
إنّ الأوروبيين هم الذين ابتدعوا الكثير من التسميات المتداولة الآن في مصطلحات دولية، فكانت أجزاء من المنطقة العربية هي بالنسبة للأوروبيين «شرقاً أدنى» وأجزاء أخرى هي في «الشرق الأوسط» بما فيه إيران وأفغانستان، ثمّ «الشرق الأقصى» وهو مجموعة الدول الممتدّة من الصين إلى اليابان.
إذاً هذه التسميات الأوروبية سبقت نشوء الدول والأمم كما نعرفها اليوم، ولم تكن قائمة على أساس حدود جغرافية دولية، ولا يشترك من فيها من شعوب بلغة واحدة أو ثقافة واحدة. كانت تسميات ترتبط بالهيمنة والسيطرة العسكرية والاقتصادية، وهي أشبه بالدوائر المحيطة بنقطة المركز التي كانت لقرونٍ طويلة في أوروبا.
عالم اليوم تغيّر كثيراً، ونقطة المركز أصبحت أميركية، وعلى رغم ذلك هناك محافظة أميركية على التسميات الأوروبية القديمة، لكن لأهداف مختلفة، وعلى أساس مضامين جديدة تريدها واشنطن أن تسود العالم أيضاً في هذا القرن الجديد. فدعاة مفهوم «الإمبراطورية الأميركية» وجدوا مصلحة في إبقاء «الغرب» كتلةً واحدة تحت قيادة أميركية، بل وجدوا مصلحةً أيضاً في إضافة دول أخرى إلى «المعسكر الغربي» كما حصل ويحصل مع مجموعة دول أوروبا «الوسطى» و «الشرقية»، وهي الدول التي كانت منذ أقلّ من ثلاثة عقود من الزمن محسوبة على «الشرق السوفياتي» فإذا بها الآن تأخذ «الهويّة الغربية» وتصبح جزءاً من «حلف الأطلسي».
ولعلّ أبرز المضامين المعطاة الآن لمفهومي «الشرق» و «الغرب» هي قضايا تميّز بين كتل الشعوب (وليس الدول) على أسس سياسية وعقائدية وثقافية. فالغرب هو مصطلح يعني الآن الشعوب التي تعتمد الأنظمة السياسية الديمقراطية ونظام الاقتصاد الحر، وتأخذ بالمنهج العلماني في الحكم على رغم الطابع الديني المسيحي لهذه الشعوب. وبالتالي، فإنّ دولة مثل أستراليا الموجودة في أسفل الكرة الأرضية، والتي هي غير معنيّة جغرافياً بتوزيع العالم بين «الشرق» و «الغرب»، أصبحت الآن دولة فاعلة في معسكر «الحضارة الغربية»!
وقد وجدت إسرائيل ومن يدعمها من دول «الغرب» الأوروبي والأميركي مصلحة كبيرة في هذه التسميات التي تجعل منها «دولة غربية» و «شرق أوسطية» معاً. إذ إنّ تسمية «الشرق الأوسط» تنزع الهويّة العربية عن المنطقة فتقضم منها دولاً عربية وتضيف إليها إسرائيل، بكلّ ما تمثّله الأخيرة من ثقل عسكري وسياسي واقتصادي «غربي».
وفي الحالتين: تقسيم العالم إلى «شرق» و «غرب» أو إلى «شمال» و «جنوب»، هناك مسئولية أولى عن الاختلاف الحاصل بين المجتمعات، وهي مسئولية الإمبراطوريات التي صنعت استقرارها وتقدّمها السياسي والاجتماعي عن طريق قهر شعوب أخرى واحتلال أراضيها، ونهب ثرواتها الوطنية وإضعاف عناصر وحدتها الاجتماعية، فأفرز ذلك كلّه على مدار عقود من الزمن تنميةً في بلدان أوروبا وشمال أميركا مقابل تخلّف وفوضى وحروب في معظم المجتمعات الأخرى.
وهناك، من دون شك، محاولات كثيرة بذلتها ولاتزال تبذلها دول إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية لتصحيح هذا الخلل السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لكنّ هذه المحاولات تصطدم دائماً بما هو عليه العالم من هيمنة للقرار «الغربي» على مجريات الأحداث وعلى مؤسّسات دولية معنيّة بتصحيح الخلل، كالأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
وليست هي المرّة الأولى الّتي تُعاصر فيها بلدان العالم هذا المزيج من مشاعر الخوف والكراهية. فالتّاريخ الإنساني حافلٌ بهذه المشاعر السلبيّة بين الجماعات والشعوب. لكن ذلك كان محدوداً في أماكنه، ومحصّلة لتخلّف اجتماعي وثقافي ذاتي أكثر ممّا هو نتيجة لتأثيراتٍ خارجية.
أمّا عالم اليوم فقد «تعولمت» فيه مشاعر الخوف وصيحات الكراهية. فربّما ساهم التطوّر العلمي في وسائل الإعلام وفي التقنيّة المعلوماتيّة أيضاً بتحمّل مسئوليّة هذه «العولمة السلبيّة». ويبدو العالم، وإن اقترب من بعضه البعض إعلاميّاً وخبريّاً، أنّه يتباعد ثقافيّاً واجتماعيّاً.
عالم اليوم لا يعيش الخوف من «الآخر» كإنسان أو مجتمع مختلف في ثقافته أو معتقده فقط، بل يعيش أيضاً الخوف من الطّبيعة وكوارثها، حيث تتحمل الدول الصناعية دوراً كبيراً في مسئولية المتغيرات المناخية.
عالم اليوم يخشى من الغدّ بدلاً من أن يكون كلُّ يومٍ جديد مبعثاً لأملٍ جديد في حياةٍ أفضل. فهناك شعوب تعيش الخوف من إرهابٍ ما قد يحدث في أوطانها، وهناك شعوبٌ أخرى تعايش الإرهاب يوميّاً حصيلة تدخّل خارجي أو تسلّط داخلي أو الأمرين معاً!.
هناك مجتمعات تخاف من «أشباح»، وأخرى تعيش الناس فيها كالأشباح! لكن الجميع يشتركون في الخوف من المستقبل المجهول القادم. وكلّما ازداد الشعور بالخوف من «الآخر» في الوطن نفسه أو من وطن آخر، ازدادت مشاعر الكراهية لهذا «الآخر»!
وحتّى لا يكون اللّوم على العلم وتطوّره التقني فقط، فإنَّ عالم اليوم يعيش تحديداً هذه الحالة نتيجة ما ساد في مطلع هذا القرن الجديد من ظواهر تطرّف ومن أعمال إرهاب شملت جهات الأرض الأربع، ولم تزل فاعلةً في كلٍّ منها، حيث انتعش بعدها التطرّف السياسي والعقائدي في كلّ بلدٍ من بلدان العالم، وأصبح «المتطرّفون العالميّون» يخدمون بعضهم البعض وإن كانوا يتقاتلون في ساحاتٍ مختلفة... وضحاياهم جميعاً هم من الأبرياء.
إنّ التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك البناء الدستوري الداخلي السليم، هي مسائل مرتبطة حتماً بما تواجهه المجتمعات من تحدّيات خارجية ومن أحداث أمنية تجري في محيطها الجغرافي أو داخل أوطانها. ولذلك فإنّها لمقولة سليمة جداً تلك التي تؤكّد أنّ الأمن الوطني لأي بلد عربي لا ينفصل أبداً عن الأمن القومي العربي العام، وعن الصراعات الدولية والإقليمية التي تحدث في عموم المنطقة.
ولعلّ الأمة العربية هي حالة فريدة جداً بين أمم العالم، فهي صلة وصل بين «الشمال» و «الجنوب»، وبين «الشرق» و «الغرب»، وبين قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا، وهي أيضاً مهبط الرسالات السماوية وأرض الحضارات القديمة، ومن تلك الأرض: أرض العرب، خرجت حضارة إسلامية وعربية امتدّت لكل الجهات الأربع وساهمت في إطلاق شعلة النهضة الأوروبية قبل قرونٍ من الزمن. وعلى أرض العرب أيضاً ثروات طبيعية ومصادر للطاقة العالمية تجعلها هدفاً دائماً للسيطرة والأطماع الأجنبية.
وستبقى هذه المنطقة العربية ساحة صراع لقوى النفوذ الإمبراطوري، وسترتجّ أرضها لدى أي اختلال يحدث في الميزان الدولي القائم على صراعات «الشرق» و «الغرب» أو على تباينات «الشمال» و «الجنوب».
ولا يمكن لهذه المنطقة ككل أو لأجزاء منها أن تختار السلامة والأمن عن طريق العزلة، فهناك حتمية الصراع الدولي على هذه المنطقة وموقعها وثرواتها، لكن ليست هناك حتمية لنتائج هذه الصراعات، فالأمر يتوقّف أصلاً على شعوب الأمة العربية ومدى وعيها وتضامنها وقوة المناعة في دولها، وهي عناصر تتصف كلّها الآن بالاختلال وانعدام التوازن السليم!.
إقرأ أيضا لـ "صبحي غندور"العدد 5096 - الجمعة 19 أغسطس 2016م الموافق 16 ذي القعدة 1437هـ