العدد 5096 - الجمعة 19 أغسطس 2016م الموافق 16 ذي القعدة 1437هـ

الغربي الذي سحره ابن عربي والرومي وسعدي... وصولاً إلى الرومانسية

«درب الغريب» للسويدي غونار إيكيلوف...

غونار إيكيلوف
غونار إيكيلوف

بذلك الشغف المُمعن في توغُّله نحو الشرق، يكتسب الشاعر السويدي الكبير غونار إيكيلوف أهميته بتلك المزاوجة والانجذاب الواعي إلى منظومة ثرية في حركة واتجاهات التصوُّف وفلسفته، وقوفاً عند الأثر الشعري الذي تبدَّت بعض ملامحه وتجلياته في الكثير من النصوص والمجموعات الشعرية التي أنجزها. تجلِّياً للكلام المُتفجِّر من حالات إشراق هي مكمن سحْر هذا الجزء من العالم. هو الغربي المأخوذ... المسحور بابن عربي، وجلال الدين الرومي، وسعدي شيرازي، وغيرهم من أساطين التجلِّي والرؤى التي لا تنفكُّ تنثر توغُّلها في البحث عن أكثر من فرْجة وسط ديجور النفس البشرية؛ وإقامة عوالم عصيَّة على التصالح معها، حين تكون كواهل أفرادها تئنُّ بالمؤقت والعابر؛ ما أتاح له تعميقاً في اتجاهه الرومانسي الذي طبع تجربته الشعرية الأخَّاذة، تلك التي تعمَّقت أكثر وأكثر بما اعتقده اكتشافاً متأخراً، لكنه استطاع أن يضع التجربة في الصدارة، بحيث امتدَّ الاهتمام بها والوقوف عندها أبعد من المكان الذي ينتمي إليه، في حركة كشف لم تنقطع عن التجربة التي كُتب لها أن تبلغ محطتها الأخيرة في العام 1968، إثر إصابته بسرطان الرئة، وكان في الستين من عمره. كشف ما يُظنُّ أنه غامض من سحْر الشرق، وصولاً إلى الشرق نفسه، الذي وقف على موروثه السحري بعين مداها النبوءة، ومن موقع الغرب هذه المرة، في توظيفات شعرية أحدثت انبهاراً في أوساطها خصوصاً.

تلك المزاوجة تكتسب أهميتها أيضاً من خلال إتاحتها الفضاء المختلف ليعيد لجانب من الرومانسية في الشعر الأوروبي بعض ملامحه وتوهُّجه الذي يبدو أنه خبا وسط هذا التوحُّش الذي بات مألوفاً بفعل الآلة، والغرق الرخيص في الماديات المدمِّرة لعلاقة الإنسان بنفسه، قبل أن يكون تدميراً لعلاقته بالآخرين.

كتاب الانتحار

عن تلك المزاوجة، والتحول الذي أخذ به إلى رومانسية ذات تناولات عميقة وسهلة، وجذابة في الوقت نفسه، كتب فخري صالح في صحيفة «الحياة»، إضاءة تحت عنوان «غونار إيكيلوف على خطى ابن عربي»، بتاريخ 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2009، جاء فيها «وعلى رغم تأثره الواضح بالشعر العربي والأدب الصوفي وشعر محيي الدين بن عربي، فإنه يوصف بأنه أول شاعر سيريالي سويدي بعد أن أصدر ديوانه الأول»متأخراً على الأرض» العام 1932، لكنه تحوَّل إلى الرومانسية بعد ذلك؛ ما جلب له الشهرة والمقروئية الواسعة في السويد وخارجها».

مجموعته «درب الغريب»، التي لازمت مجلة «الدوحة» في العدد السادس بعد المئة، لشهر أغسطس/ آب 2016، والتي تولَّى ترجمتها كاميران حرسان، وراجعها محمد عفيف الحسيني، تقدِّم لنا نثرات وجوانب من عوالم إيكيلوف؛ ما يعني الحاجة إلى قراءة أعماله التي سبقت، ومن بينها: «متأخر على الأرض»، والتي صدرت العام 1932، وأطلق عليها «كتاب الانتحار»، من حيث الكم الهائل من التشاؤم الذي عجَّت به المجموعة، ويرى حرسان أن «المجموعة متأثرة بأجواء عالم السريالية الحالم, نظم جزءاً من قصائد المجموعة في باريس, التي حجّ إليها الشاعر ليحترف الموسيقى, حيث تعرف هناك على كبار الفنانين الدادائيين والشعراء السرياليين أمثال آرب, بريتون وأضحى عبر إقامته هناك على اتصال وثيق مع المدارس والتيارات الأدبية والفنية التصويرية كالمستقبلية, الدادائية والسريالية المهيمنة آنذاك». «تكريس»، وهي الثانية، وصدرت في العام 1934، وكتب عنها حرسان بأنها «حظيت برضى النقاد وإعجابهم، فقد شعروا بأنهم أمام شاعر مبدع، جاد وعميق، خرج بالشعر من طابعه المألوف إلى اللامألوف، مؤسساً نداء شعرياً جديداً، يتسم بالبساطة والعمق»، و «الحزن والنجم» في العام 1936، والتي مثلت تكريسه كشاعر رومانسي فذ وعميق في بساطته، وبسيط في عمقه، «اشترِ أغنية الأعمى»، في العام 1938، مروراً بالمجموعة التي جعلته واحداً من أهم الأسماء في المشهد الشعري السويدي «أغنية العبَّارة»، والتي صدرت في العام 1941، حيث البساطة والعمق والتي أضحت «بآنية المخاطبة فيها، وبسرمدية غرائبيتها المستلهمة من الشرق، واحدة من أعظم المجموعات في الشعر الغنائي السويدي»، بحسب ما كتب مترجم المجموعة والمقدِّم لها كاميران حرسان، والذي كتب في موضع آخر من التقديم بأن إيكيلوف، «يركِّز على ما هو مشترك بين الناس، مبتعداً عن الجماعية، وعن (كل شكل من مخدِّرات الاستبدادية الشمولية)».

العروج الذي لا ينقطع

يكتب كاميران حرسان، في تقديمه لـ «درب الغريب»، إن غونار إيكيلوف (1907 - 1968) «وصف مرة، مشوار حياته بـ (درب الغريب)، المبتعد والمُبعد عن كل شيء. فصيغة الألم ترجع أصولها إلى طفولة هشَّة، قلقة، مستمدَّة نِسغ تعاستها من افتقاده للأبوين: ظلال الأب المتوفى بالسفلس، وغونار في ضوئه الرابع، والأم التي غمرته ببرودة المشاعر وأسى اللامبالاة، مانحة إرث الروح لبعلها الجديد».

كأنه وجد ضالَّته بعد زمن، في اللجوء إلى اكتشاف النفس والروح والقيمة، من خلال نفوس وأرواح محلِّقة، لم تتأت في المكان الذي ينتمي إليه، بل هي هناك حيث للسحر أجنحته، وللتجليات قدرتها الفارقة على السفر دون أن تبرح المكان، في عروج لا ينقطع، وإسراء مندفع في عوالم ظل يبحث فيها عن قلق وتوازن نفسي. قلق يجعله في بحث دائم، وتوازن يحتاجه لإدراك والقبض على ما اطمأن إليه.

لم يكن الشرق بالنسبة إلى إيكيلوف، عبوراً للوقوف على الظاهر مما تبقَّى من حضارته التي انزوت وتلاشت، بطغيان مدنية لا ترتبط بالمكان، بقدر ما هي مدنية مُعلَّبة. كان ارتباطه بالشرق تعلُّماً للسانه أولاً، من خلال أكثر من لغة أجادها إجادة تامة من بينها البنغالية، والهندية، والفارسية.

كتب ذات نص: «من يعشْ فعلاً، يبْدُ كأنه ميِّت». لا تحضر مثل هذه الكتابة بكل ما تختزله من انشغال بالحياة، وعروج إلى ما وراءها، إلا بعد توغُّل فادح في أنماط من النظر، وأشكال من الرؤيا التي كان الشرق فضاءها الجدير. يكتب وقد تلبَّستْه الحياة في تأمل حياة أخرى لم تأتِ، تتجسَّد في موت هو لصْق جلودنا وأنفاسنا... أملنا وخيباتنا. غرف نومنا المؤقت، وغرف يقظتنا الأبدية؛ حيث حيِّز من قبر!

رُسُل من عيون

نقرأ في نص «الزنزانة»: «تروي الحكاية أن عاشقاً أعمى، كان أميراً، كثير الحقوق، لكنْ، كانت الأحصنة أحبَّ الأشياء إلى قلبه.

وهكذا، سُلب بصره، بغبرة متوهِّجة، قال: لم أرَ نوراً أكثر قوة من ذلك، ولا ديجوراً أعظم، لكنني علَّمت يديَّ أن تبصر نوراً آخر، هو نور اللمس، وهو القادر، بإحساسه، على أن يرى في صوتك، إن كنت شاباً، أو كهلاً، جميلاً، أو ذكياً».

يأخذك إلى البصيرة وهي تُشرع أكثر من عين. أو كأن لها رسلاً من عيون تضعها لتكون في قلب الرؤية التي هي عصيَّة من حيث احتواؤها في الأمكنة كل الأمكنة، ضمن زمن لا يتعدَّد فيها.

في نص «البئر المُطهَّرة»، نقرأ «قوديني أيتها الأميرة من يدي...

دعينا نذهب، بعيداً عن ميزوبوتاميا (الهلال الخصيب)

إلى بلادنا. لن يؤذينا أحد، ولن نؤذي أحداً، العماء يقوِّي الرؤية، إلى حدِّ النور».

وفي حضور العماء هنا (السحاب) استحضار لما يناقضه لكن هذه المرة ليس على مستوى التوظيف، بل على مستوى تأكيد ما يمكن التحصُّل عليه منه. رؤية وعمى وحضور للمس. حواس تقوم بمركز الأدوار، وهي التي تظل في الأطراف منها.

في «ديوانه الشرقي»، يمكننا الوقوف على مناهل شرقية رئيسة وعميقة في تجربة الشعر الصوفي والتجليات، وخصوصاً في تجربة كل من ابن عربي، في «ترجمان الأشواق»، وكثير من نصوص جلال الدين الرومي، قفزاً إلى مزاوجة مع فضاء ينتمي إليه إيكيلوف، وأحدث تأثيراً كبيراً في تجربته، من خلال أسماء مهمة في المشهد الشعري العالمي، تمثلت في مالارميه، رامبو، ت. إس إليوت وغيرهم.

كتاب الحياة أيضاً

من بين ما ركَّز عليه كاميران حرسان، في تقديمه لـ «درب الغريب»، ذلك الاشتغال الذي انكبَّ عليه إيكيلوف، والغرابة التي انتابت القارئ السويدي، كونه لم يعتَدْ عوالم يتم توظيفها فيما عرف من شعر هو من نتاج المكان في كثير مما يحمله. «لم يكن الشارع الأدبي السويدي مهيَّئاً بعد لفهم هذا النوع من التجديد. حتى الهيكل الخارجي لشكل القصيدة لم يجد صدى يذكر لدى النقَّاد»، ويورد واحداً من الشواهد على ذلك، يتجلَّى في قصيدته «تنام الورود على النافذة»، ومن فضائها: «الورود تتكئ على الليل، والقنديل يغزل نوراً في الزاوية... تغزل القطة كبَّة صوف لتغفو معها... بين الحين والآخر، يشخر إبريق القهوة بعبق، والأطفال يلهون بكلمات على أرض الغرفة. تغيب كلمة (أنا) التي تُستبدل بوجود غير مرئي للأشياء التي تحيا حياتها الخاصة، في انتظار سكون الموت».

لأن أطلق على مجموعته «متأخر على الأرض»، «كتاب الانتحار»، إلا أنه كان ابناً لفهم الحياة وهضمها من نافذة الموت التي ظلت مشرعة كي يرى حركة العالمين كما هما. هو كتاب الحياة التي كتب عنها بكثير من التحايل والنأي عنها في كثير من الأحيان، وبأكثر من جناح. جناح ذلك العالم المؤثث بالشفافية والعناء اللذيذ في الوقت نفسه، سعياً إلى وصول لا يتحقق، أو لا يراد له أن يتحقق.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً