يروق للكتّاب السياسيين أحياناً ممارسة «التنجيم» السياسي على طريقتهم الخاصة، كالتنبؤ بوقوع حدث سياسي ما في ضوء تتبعهم عن كثب لحيثيات خلفياته ومسار فصوله فيصيبون بذلك أو يخطئون. قبل نحو 20 عاماً وعلى إثر تفجر فضيحة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الجنسية مع الفتاة اليهودية مونيكا لوينسكي داخل البيت الأبيض وما نُشر حينها من تفاصيل خلواتهما الغرامية بالتفاصيل الدقيقة في الصحافة الأميركية، راهنتُ أحد الزملاء الصحافيين بانتهاء الفضيحة بتنحي الرئيس أو عزله، لكني خسرت هذا الرهان غير القماري وبقي الرئيس حتى نهاية ولايته الثانية، كما لم تتأثر حياته الزوجية بما يكدر صفوها كثيراً لتلك الواقعة.
وكُنتُ قد توهمت أن الأخلاق لها شأنُ عظيم من القداسة والحُرمة، كما في شرقنا العربي، لما هو معروف عن الأميركيين، بأنهم شعب محافظ نسبياً حتى بالمعايير الغربية نفسها ولما يلعبه الدين من تأثير في معتقداتهم وأفكارهم، فقد تبيّن أن رذائل كالكذب الصريح والغش والتجسس على حياة الناس الخاصة وكل ما يدخل في عداد ذلك من ممارسات فسادية للرئيس تمس المال العام ويتضرر منها الشعب هي الفضائح الأعظم خُزياً عندهم عندما يمارسها الرؤساء والقادة السياسيون، هذا لا يعني بالضرورة قبولهم بمثل تلك الفضائح اللاأخلاقية الشائنة.
لقد نجح الحزب الديمقراطي كجزء من النخبة الحاكمة المتناوبة على احتكار البيت الأبيض بأن يكسر عُرفاً تاريخياً ساد طويلاً باقتصار الرؤساء البيض على دخوله فجاء الحزب بباراك أوباما كأول رئيس أسود مُنتخب لإظهار دلالة شكلية على ديمقراطية المؤسسة الحاكمة واتساعها لتمثيل الحقوق المدنية لمختلف الأعراق وأنها تجاوزت المرحلة العنصرية، ومن يدري فلربما ينجح الحزب هذه المرة، إذا ما فازت هيلاري الانتخابات المُقبلة، في إثبات مقدرته على إيصال أول سيدة إلى قمة هرم النظام السياسي أياً تكن مدى استفادة النساء الأميركيات في التمكن من انتزاع حقوقهن السياسية والاقتصادية بمختلف شرائحهن الاجتماعية من هذا الوصول.
ولعل الولايات المتحدة من أوائل دول العالم الحر التي أطلقت على زوجة الرئيس «السيدة الأولى»، وعلى خطى هذا التقليد اقتدى بها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات فخلع على زوجته جيهان لقب «سيدة مصر الأولى» بعدما خلع على نفسه قِبلاً «الرئيس المؤمن»، ولما لم يقتدِ الرؤساء الذين جاءوا من بعده به بهذا التقليد أطلق بعض الكتّاب المصريين الظرفاء عليها تهكماً لقب «سيدة مصر الأولى والأخيرة». لكن في الحالة الأميركية ماذا سيكون مستقبل هذا اللقب إذا ما فازت هيلاري؟ هل ستحمل كلا اللقبين؟ بمعنى «رئيسة الولايات المتحدة الأميركية» و «السيدة الأميركية الأولى»؟ ثم هل يجوز لها أن تحمل هذا اللقب الأخير وزوجها ليس رئيساً؟
كمتتبع للشأن الدولي شغلتني هذه التساؤلات برهة من الزمن حتى قرأتُ قبل ما يزيد على شهرين تقريباً أنه في حالة فوزها سيُمنح بيل كلينتون لقب «الجنتلمان الأول» في الولايات المتحدة، أو وبالتعبير الحرفي المترجم إلى العربية «الرجل المهذّب الأول»، علماً بأن مهماته المنتظرة لن تختلف عن المهمات النسائية والمنزلية التي مارستها السيدات الأوائل أزواج الرؤساء السابقين. لذا لا يُعرف، باعتباره رجُلاً ورئيساً سابقاً، عما إذا سيتجمل بالروح الرياضية التي تحلى بها شعبه عندما علم بفضيحته المدوية مع «مونيكا» في البيت الأبيض نفسه؟ فيقبل بالتالي لنفسه مزاولة المهمات النسائية المنزلية الهامشية التي زاولتها زوجته إبان توليه الرئاسة فضلاً عن السيدات السابقات؟ ثم هل ستتمتع هي الأخرى برباطة الجأش حينما تستذكر بألم أن في كل غرفة تدخلها أو ردهة من ردهات البيت الأبيض تمر فيها كان لزوجها بصمة من بصمات غرامياته مع مونيكا.
ومن المعروف أن من المهمات التي تضطلع بها زوجات الرؤساء السابقين في البيت الأبيض محاربة البدانة، واستبدال أطقم الصحون الصينية، وتنظيم حفلات الشاي في حديقة البيت الأبيض، لكن هيلاري تبدو أنها لا تريد تمريغ «كرامة» زوجها في هذه المهمات النسائية وهو بجانبها في البيت الرئاسي، فنقلت عنها الصحافية المتخصصة في شئون سيدات البيت الأبيض جيل فليبوفتش أنها ستعينه «مستشاراً اقتصادياً»، لكنها تستطرد ساخرةً «إذا يريد بيل أن يدخل التاريخ حقيقةً فليفعل ما كانت تفعله السيدات الأوائل، وهنا سيقدر على تحقيق المساواة الكاملة بين الرجال والنساء». لكن بيل كلينتون ظهر في رسم على صفحة كاملة في الـ «واشنطن بوست» وهو يسقي زهور البيت الأبيض، وإذا ما تحولت هذه الرسمة من الخيال إلى الواقع فلعلها الصورة التي تليق بالرجل للتكفير عن شيء من ماضيه السياسي والزواجي لما تعبر عنه الزهور من دلالات ومعانٍ جميلة سامية في بيتٍ لطالما تلطخت سمعته الأخلاقية والسياسية على السواء.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 5093 - الثلثاء 16 أغسطس 2016م الموافق 13 ذي القعدة 1437هـ