نظراً إلى أهميّة الثقافة في حياة المجتمع، ولدورها المحوريّ في التنمية الشاملة، وبناءً على اقتراح للمجموعة العربيّة في منظمة اليونسكو، كانت مبادرة عاصمة الثقافة العربيّة التي شُرِعَ في تطبيقها العام 1996، بإشراف المنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو).
وتهدف هذه التظاهرة السنوية إلى تنشيط المبادرات الخلاقة، وتنمية الرصيد الثقافي والمخزون الفكري والحضاري من أجل تعميق الحوار الثقافي والانفتاح على ثقافات الشعوب وحضاراتها، وتعزيز قيم التفاهم والتآخي والتسامح واحترام الخصوصيّة الثقافيّة.
وتحت شعار: «الثقافة توَحّدْنا وصفاقس تجْمَعنا» انطلقت في (الـ23 من يوليو/ تموز الماضي) فعاليّات تظاهرة «صفاقس عاصمة الثقافة العربيّة». وصفاقس، التي تتطلع إلى خطف الأضواء، وبث إشعاع عربي وإقليمي، هي عاصمة الجنوب التونسي، وثاني أكبر المدن التونسية تقع على بعد 270 كيلومترا جنوب تونس العاصمة، وتمتد سواحلها المطلة على البحر المتوسط إلى مسافة 235 كيلومتراً. وتمسح 7545 كيلومترًا مربعًا ويقطنها حوالي مليون ساكن.
ولعلّ اختيارها عاصمة للثقافة العربيّة لم يكن اعتباطيًّا؛ فصفاقس مدينة عربية عريقة، فيها عديد المعالم التي تؤهل لِتُصَنَّفَ كمحمية ثقافية في التراث العالمي لليونيسكو؛ نظرا إلى ما تزخر به هذه المدينة من المعالم الأثرية والثقافية والتاريخية، فضلاً عمّا لعبته من أدوار حضاريّة مهمة في تونس بعلمائها ومصلحيها وأعلامها.
ويؤكد المؤرخون أنّ وجود المدينة قديم، يعود إلى الحقب التي سبقت ميلاد المسيح. وتختلف الرّوايات حول تسمية هذه المدينة التي ينسبها بعض المؤرخين إلى القائد الأمازيغي سيفاكس. وهي إلى ذلك مدينة عربية مشهورة كانت تسمّى محروسة صفاقس، لكونها محاطة بالسور الذي بناه «الأمير الأغلبي إبراهيم بن الأغلب» في القرن الثالث هجري ليحرسها. وهذا السور أعطاها شهرة؛ لأنه من أهم الأسوار في البلاد العربيّة؛ كونه محفوظا بكامله، بخلاف مدن عربية أخرى. وفيها أيضا معالم كبيرة معروفة مثل الجامع الكبير الذي بُنِي في الزمن الأغلبي، وتوجد أيضا «الفسقيّة» الناصرية التي بنيت في العهد الموحّدي وهي عبارة عن 365 ماجلاً بعدد أيام السنة، قام بترميمها لاحقا ملك تونس «علي باي» في العهد الحسيني في القرن الثامن عشر، والماجل هو مكان لتجمع مياه الأمطار تشتهر بها المدن التونسية القديمة. كما في المدينة العتيقة المدرسةُ الحسينيّةُ التي يعود تاريخها إلى أكثر من 250 عاماً.
كما اشتهرت صفاقس أيضاً بعدد من العلماء والصلحاء والأولياء الذين جمعوا بين الصلاح والعلم، من أبرزهم أبو الحسن اللّخمي وسيدي بلحسن الكراي والشيخ علي النوري الذي درس في الزيتونة في تونس ثم الأزهر في مصر وعاد في مطلع القرن الثامن عشر ليساهم بدور كبير في النهضة العلمية والثقافية لصفاقس، كما أسّس الأسطول الدفاعيّ الشهير لحماية المدينة من هجمات القراصنة.
وفي القرن العشرين أنجبت صفاقس العديد من العلماء الأفذاذ سواءً في ميدان الأدب أو العلوم الصحيحة أو الشرعية. ونذكر هنا المفتي الأسبق للديار التونسية محمد مختار السلامي، والجامعي القدير عالم اللغة عبدالقادر المهيري، وفي باب الفلسفة نجد فتحي التريكي الذي حاز كرسي اليونيسكو للفلسفة. وإضافة إلى ذلك، أنجبت صفاقس أعلاما في الفنّ مثل محمّد الجمّوسي، وفي الأدب مثل مصطفى الفارسي، وقائمة طويلة من الشعراء والرسامين والسينمائيين، كما اشتهرت صفاقس بإذاعتها الجهوية عميدة الإعلام الجهوي في تونس.
ويؤكد المؤرخ عبدالواحد المكني، الكاتب والأستاذ المحاضر في التاريخ المعاصر والانثروبولوجيا التاريخية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، أنّ هذه المدينة هي الأكثر مواجهة للاستعمار الفرنسي؛ حيث صمدت تقريبا شهرا كاملا، ودخلها الجيش الفرنسي بعد مقاومة عنيفة وقام بمجزرة كبيرة في صفوف السكان وأُحرق الناس أحياء في المساجد، وهي جرائم حرب، كما تمّت سرقة مفتاح المدينة وهو إلى حد الآن في أحد المتاحف الفرنسية.
وتعد مدينة صفاقس حاضنة تاريخيّة للعمل النقابيّ العماليّ منذ فترة الاستعمار الفرنسي، ففرحات حشاد، مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل، من أبرز الشخصيات الوطنية التونسية وهو ابن جزيرة قرقنة التابعة لمدينة صفاقس.
وللمجتمع الصفاقسي جملة من العادات والتقاليد، سواء في المأكل والملبس أو في الحياة اليومية، وحتى في نمط التديّن؛ فأغلب الصفاقسيين ينتمون إلى المذهب المالكي، وأغلب علمائها عبر التاريخ هم من المتسامحين المرنين الذين يعتبرون الدين وســيلة للتقدم والتسامح وليس وسيلة للتشفّي.
لهذا وغيره اختيرت مدينة صفاقس التونسية عاصمة الثقافة العربيّة 2016، وقد انطلقت فعاليات صفاقس عاصمة الثقافة العربيّة في (الـ23 من يوليو الماضي) بعرض فنيّ شعبيّ في «باب البحر» وسط مدينة صفاقس، بعنوان: «مدار العرب»، رافقه عرض سينوغرافي بعنوان: «صفاقس تضيء سماء العرب». وتزامن ذلك مع حفل الافتتاح الرسميّ في «القصبة»؛ وهو أوبيريت بعنوان: «المدينة الصامدة».
وكان اليوم الثاني شهد توقيع اتفاقية شراكة بين «صفاقس عاصمة للثقافة العربيّة» و»القدس، العاصمة الدائمة للثقافة العربيّة»، ثم انتظم في (الخامس والعشرين من يوليو الماضي) يوم خاص بفلسطين.
ولاتزال الفعاليات الثقافية العديدة قائمة في المدينة والمدن والقرى المجاورة لها والتابعة إليها إداريا. كما تزامنت التظاهرة مع المهرجان الصيفي الدولي بصفاقس حيث كانت المشاركات تحمل أسماء لامعة في عالم الفن والطرب على غرار ابن المدينة صابر الرباعي وشيرين عبدالوهاب والشاب خالد وغيرهم.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 5092 - الإثنين 15 أغسطس 2016م الموافق 12 ذي القعدة 1437هـ
صفاقس عاصمة الثقافة
شكرا لكم
تابعنا حفل الافتتاح كان جميلا
كيف لا وانت يا إستاد سليم من مدينة صفاقس التونسية