الوسط - جعفر الجمري
ليست قصص كفاح وتحدٍّ ومثابرة، وانتصار على الذات والظروف المحيطة فحسب. إنها قصة صناعة نجاح لا يمكن التعامل معه باعتباره نموذجاً فحسب، بل باعتباره ممكن التحقق، إذا ما وضع الإنسان نصب عينيه ما يتطلَّع إليه من أهداف، وعزَّز ذلك التطلُّع بالأدوات التي توصله إلى ذلك الهدف.
علي محمد حميدان، شخصية دبلوماسية وقانونية بحرينية، وإن تركت بلادها مع مطلع خمسينيات القرن الماضي طلباً للمعرفة؛ إلا أنه ظل مقيماً في داخله، كما هو شأن الأقطار العربية جميعها؛ لذا لم يجد نفسه غريباً، أو طارئاً على المكان الذي احتضنه وضمَّه وقدَّره، ومنحه الثقة، بحيث نال شرف جنسيته، وأعني هنا دولة الإمارات العربية المتحدة، التي أوكلت له مهمة أول سفير لدى الأمم المتحدة قبل قيام الاتحاد بين الإمارات السبع: أبوظبي، دبي، الشارقة، عجمان، أم القيوين، راس الخيمة، والفجيرة، لمدة 10 سنوات، متنقلاً من مهمة إلى أخرى وصولاً إلى ترؤسه البعثة الدبلوماسية في كل من كندا والجمهورية العربية السورية.
في الحوار المهم الذي أجراه الزميل الكاتب والصحافي كمال الذيب، وكان ذلك في العام 1990، بمناسبة زيارة حميدان إلى بلده ومسقط رأسه البحرين، وضمَّنه مادة كتابه الجميل والمهم «مساءلات في الثقافة البحرينية... عشرون عاماً من الصحافة الثقافية»، الصادر عن مجلة «البحرين الثقافية» في العام 2015، نقف على محطات ومجموعة رؤى تبدو مبكِّرة وقتها، وخصوصاً في تناوله لموضوع الإرهاب الذي لم يعرف تمدُّداً وتغوُّلاً وتوغُّلاً كما نشهد اليوم في قدرته على إصابة كثير من دول العالم في مقتل أو ما يشبه المقتل، مزعزعاً نظُم بعضها، ومهدِّداً استقرار دول كانت تتوهَّم أنها ستظل في مأمن من ذلك الوباء الذي لم يستثنِ بقعة من الأرض.
العمل في المحاكم الكويتية
وعودة إلى حميدان، فهو واحد من أبناء الرعيل الأول، قبل استقلال كثير من دول الخليج، الذين تلقوا تعليمهم في أكبر الجامعات الفرنسية في أواخر خمسينيات القرن الماضي. وفي رحلة طويلة بدأت من البحرين، حيث تلقى تعليمه في مدارس المنامة، وتحديداً في المدرسة الغربية؛ حيث حصل على الثانوية العامة في العام 1951، ليأخذه التحصيل العلمي إلى العاصمة العراقية (بغداد) التي مكث للفترة ما بين 1952 و 1956، ليتحصَّل على شهادة الليسانس، ليستقر بعد ذلك في الكويت مُلتحقاً بالمحاكم الكويتية ما بين العام 1957 و 1958، كي يتمكَّن من مواصلة دراساته العليا.
وطلباً لإشباع نهمه للمعرفة والتحصيل العلمي، حط رحاله في العاصمة الفرنسية (باريس) التي مكث فيها في الفترة ما بين 1959 و 1967، حيث حصل على دكتوراه الدولة في القانون الدولي من جامعة السوربون، وكان موضوع أطروحته «التطور السياسي لدول الخليج العربي في العصر الحديث»، ليعود إلى الكويت ثانية حيث عمل مدرِّساً في جامعة الكويت لمدة سنة كاملة، ومع مطلع سبعينيات القرن الماضي حط رحاله في دولة الإمارات العربية المتحدة التي بدأت في تشكيل اتحادها، في تجربة فريدة ومغايرة في التاريخ العربي المعاصر، بدخول 7 إمارات تحت مظلته، حيث عيِّن بادئ الأمر سفيراً قبل الاتحاد لدى المنظمة الدولية لمدة عشر سنوات، في الفترة ما بين 1970 و 1980، والعودة إلى ديوان وزارة الخارجية مديراً للدائرة القانونية، مروراً بمهمته سفيراً للإمارات لدى سورية، وانتهاء بتقاعده وفتح مكتب للمحاماة والاستشارات القانونية في العاصمة (أبوظبي).
في الحديث عن موضوع الديمقراطية، تناول الخطورة التي تعاني منها الدول حين تضطر بعد الأحزاب والتيارات إلى العمل من تحت الأرض، بدلاً من الممارسة القانونية التي تتيحها الدول، وأعطى الجزائر مثالاً في تلك الفترة، بسبب منع القوى الديمقراطية من العمل والمشاركة؛ ما أدى إلى «نمو التيارات المتطرفة في الظلام وداخل قبو السرية، وعندما سُمح أخيراً لهذه القوى بالعمل كانت القوى الدينية المتطرفة قد بنت هياكلها السرية، وقررت افتكاك السلطة بأي شكل؛ أي عبر صناديق الاقتراع، وعبر القوة والانقلاب».
الدولة الأصولية منافية للعصر
كانت أفكار حميدان بقدر ما هي قراءة للأوضاع التي تمر بها بعض البلدان العربية مع بداية تنامي الأصولية الإسلامية، ترسم صورة واضحة لما يمكن أن تؤول له الأوضاع في العالم العربي، وما يمكن أن ينتج عن صعود التيارات الأصولية إلى المشهد السياسي في بلدانها، من خراب ودمار وتفتيت للأوطان ونسف لحدودها وخياراتها وما تبقى لها من استقلال.
ولهذا جاءت أفكاره في الحوار غير مواربة أو متحفظة، بقدر ما كانت شديدة في صراحتها، لأن المرحلة وقتها، وحتى اليوم، لا يمكن أن تعرف استقراراً، وبناء، ونهضة، وتنمية، ما لم يتم الالتفات إلى الخطر الذي يمكن أن تمثله تلك التيارات، التي نشهد اليوم عصفها ببلدانها أولاً، وامتداد خطرها وتهديدها وعملياتها إلى عمق القارة الأوروبية، بل والدولة الأكبر والأقوى في العالم اليوم: الولايات المتحدة الأميركية.
لذلك وبعيداً عن التحفُّظ أو المداهنة، قال في اللقاء المذكور: «لا يمكننا ونحن على أبواب القرن الواحد والعشرين (كان اللقاء في مطلع تسعينيات القرن الماضي) أن نؤسِّس دولة أصولية، هذا غير ممكن لأنه منافٍ للتاريخ والعصر، وهذا لا يعني أن لنا خلافاً مع الدِّين الحنيف، ولكن أن نعوِّض دكتاتورية عسكرية بأخرى دينية، نكون قد حكمنا على حياتنا العربية بالعقم والانفصال عن العصر». مضيفاً في هذا الصدد أن «وصول أي فئة إسلامية إلى السلطة مستفيدة من أي مناخ ديمقراطي يعتبر كارثة فعلية، لأنها وصولها إلى السلطة سيعني باختصار سقوط أي تجربة ديمقراطية أو تعدُّدية على حد سواء، وبهذا المعنى أنا لا أرى فرقاً بين الأصولية والشيوعية من حيث البناء الشكلي».
أزمة الهوية والتنمية
يطرح الذيب الإشكالية القائمة بين الرغبة في دخول العصر وإطلاق مزيد من الحريات «والسماح بأنواع من المشاركة»، وبين الخوف من أن فتح الباب يمكن أن يفضي إلى وصول قوى تعود بنا إلى الوراء، وما إذا كان كل ذلك يمثل مأزقاً لكثير من البلدان، ليؤكد حميدان وجود مأزق ولكنه ليس عاماً، مفصِّلاً في هذا المقام بالقول: «يمكن أن يكون هذا في بلدان المغرب العربي واضحاً جداً، وفي بعض البلدان العربية الأخرى كالسودان والأردن ومصر، إلا أنه في بلدان الخليج العربي فإن التدرُّج نحو هذا النوع من الممارسة والمشاركة بإطلاق مزيد من الحريات، وتوفير حد أدنى من المشاركة المنظَّمة، وإذا ما حدث مثل هذا، فإنه سيفضي تدريجياً إلى فضح المتاجرين في طاقات المجتمع العربي، وسيتحرَّر حتماً من الأصولية، لأنها ظاهرة مرَضية مرتبطة بأزمة الحريات وبأزمة الهوية، وبأزمة الحيرة والتنمية، والبحث عن الذات الضائعة (...)».
ضد تحقير دور عامَّة الناس
من بين الأسئلة المهمة التي ركَّزت على التطرف والأصولية، سؤال نصُّه: هل الديمقراطية مجرد مؤسسات، قد تُفرغ من محتواها، ويقفز إليها المثقفون، ويتسلَّل إليها المتطرفون، أم أنها ممارسة يومية، مسألة تربية وعقلية؟
كان رد حميدان قريباً من المحاور التي تناولها في الأسئلة السابقة، مع تأكيده بأن الديمقراطية تتمثل في الاثنين معاً: المؤسسات، وتفريغها من محتواها «هي مؤسسات، وهي ممارسة، ولكنني شخصياً ضد تحقير دور الشعب بمعنى العامة؛ إذ أثبت كثير من الدراسات، وآخرها دراسة لمتخصِّص مصري أكد فيها أن الأمِّيين في مصر هم أكثر الناس إقبالاً على صناديق الاقتراع، ولذلك فإننا كلما أسرعنا نحو إشراك الناس في الاختبار، أنقذنا المجتمع من مغبَّة السقوط في هاوية التطرُّف، وخطر الأصولية (...)».
الدولة هي الحقيقة الموضوعية الوحيدة
تضمَّن اللقاء أسئلة قادت إلى إضاءات على مرحلة باريس وما أحدثته من تحول وفارق كبير على الصعيد النفسي والنظر إلى العالم من حوله. عن الحرية التي منحته فمارسها بوعي والتزام «لقد اقتطفت من العمر عشراً من السنين، عشتها بحرية عاقلة، حرية الباحث، حرية الإنسان الباحث عن كمال الوجود الحي (...)». استدرج الذيب حميدان للحديث عن النكسة وما تركته من أثر في نفسه، وكان بالضرورة الحديث عن الزعيم العربي جمال عبدالناصر، رداً على سؤال يتعلق باستقبال نبأ استقالته بعد الهزيمة بأيام، وقد كان في باريس وقتها؛ حيث أشار إلى مؤاخذات كثيرة أخذها العرب على عبدالناصر، مع بقاء الاحترام له، والصدمة التي سببتها هزيمة يونيو/ حزيران، ذاهباً إلى التفصيل في تلك المؤاخذات بإشارته إلى أن مشكلة عبدالناصر «أنه لم يبْنِ حزباً قومياً، ولم ينشر القومية العربية داخل مصر، ولذلك تلاحظ أن الناصرية انتشرت خارج مصر أكثر من انتشارها في الداخل، وأن العرب خارج مصر مؤمنون برسالة عبدالناصر أكثر من المصريين أنفسهم». مضيفاً أنه «كان رجل شعارات، لم يكن يعمل على أرضية ثابتة داخل مصر، يعمل برفقة مجموعة غير متجانسة من الرجال، فكرياً وسياسياً، من غير حزب».
مضيفاً في هذا الصدد «كان عبدالناصر يتصرَّف بعفوية واندفاع، وكانت النظرة الموضوعية شبه غائبة، من حسن ترتيب وتقدير، لقد كان يتصرَّف بعقلية الفارس العربي القديم، الفارس البطل الشجاع المقدام، والإنسان العربي كان دائماً مُحتاجاً إلى صورة الفارس، إلى صورة البطل».
قاد ذلك بالضرورة إلى الكلام على إعادة تأسيس المفاهيم، أو بمعنى آخر إعادة صوغها وتمثُّلها، والفرز بينها. وقع خلط كبير بين تلك المفاهيم، ما ولَّد ممارسات خاطئة، وبعضها كان كارثياً جرَّ الويلات والكوارث على بعض البلدان. هي أزمة موضوعية أيضاً. موضوعية النظر في حقيقة المشكلات، وتلمُّس الحلول التي إن لم تعمل على استفحالها وتعقيدها، فعلى الأقل الحدّ من إرباكها وزعزعتها لمشهد الاستقرار والانشغال بالتنمية في عالم عربي ظل تعامله مع التنمية سطحياً وبرَّانياً، وغير ذي أثر على حقيقة الحياة، والنقلات التي يمكن أن تحدث من ورائها. وضمن هذا الإطار قال: «الوحدة العربية فكرة في حاجة إلى إعادة تأسيس موضوعية. الدولة هي الحقيقة الموضوعية الوحيدة في الوطن العربي حالياً، ويجب أن نؤسس البنيان على أساس موضوعي؛ أي يجب أن ننطلق إلى فكرة الدولة أولاً؛ أي أن نبني دولنا محلياً، ثم نفكِّر فيما بعد في البُعد الإقليمي، ثم في البعد القومي الشامل. فوحدة 1958 بين مصر وسورية مثل على الارتجال العربي، والحماسة غير الموضوعية؛ إذ لم يكن من الممكن دمج بلدين متباعدين جغرافياً في وحدة واحدة. متباعدين اقتصادياً وسياسياً أيضاً، وكان الفشل نهاية طبيعية لمثل هذا القفز على الوقائع (...)».
كتاب يكشف طبيعة السجالات
يظل كتاب «مساءلات في الثقافة البحرينية... عشرون عاماً من الصحافة الثقافية»، لكمال الذيب، واحداً من الإصدارات المهمة التي لا غنى لباحث أو قارئ ينشد معرفة طبيعة السجال الفكري والحراك الثقافي في عقدين حدثت فيهما تحولات وتغيُّرات لم تمسَّ بنية المجتمعات الظاهرة والفوقية فحسب، بل امتد ذلك ليشمل الأفكار والقناعات، والنظر إلى قضايا وملفات وإشكالات بعين فاحصة حيناً، وحالمة حيناً آخر، كما أنه يقدِّم نماذج لفاعليات ثقافية وفنية ومسرحية وفكرية، كانت في تلك الفترة الزمنية محط اهتمام ومثار جدل، وغنى ظل شاخصاً وحاضراً في امتداده إلى المشهد الثقافي الخليجي، وبعض تلك الأسماء، تجاوز ذلك إلى المشهد الثقافي العربي.
أحد الأوائل المُكرَّمين
بعد أن وصل إلى سن التقاعد، لم تنسَ دولة الإمارات الدبلوماسي علي حميدان؛ إذ قامت بتكريمه باعتباره واحداً من الأوائل الذين ساهموا في التحوُّل والتغيير الذي شهدته البلاد، ضمن كوكبة من أوائل المخترعين والمعلمين والأطباء والمهندسين والعسكريين والأساتذة الجامعيين وغيرهم، وصل عددهم إلى 43 شخصية وطنية، في احتفال رعاه في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2014، نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. وتم منح المُكرَّمين ميدالية أوائل الإمارات إضافة إلى تخليد أسمائهم في ذاكرة الإمارات عبر أرشفة حكومية، وكتاب سنوي حكومي خاص بهم.
وصرَّح السفير حميدان وقتها لوكالة أنباء الإمارات، إنه يشعر بالسعادة والفرحة الغامرة بعد اختياره ضمن كوكبة «أوائل الإمارات» والذي يعكس تقدير وفخر واعتزاز الدولة بأحد بنائها الذين بذلوا الجهد في مسيرة العمل الدبلوماسي.
وبعد ذلك بعام، تم تكريم أسرة السفير من قبل ممثل الحاكم في المنطقة الغربية بدولة الإمارات، سمو الشيخ حمدان بن زايد آل نهيان، وبحضور وزير الخارجية سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، بمناسبة احتفالية وزارة الخارجية بيوم الشهيد، إذ تم تكريم عائلته على هامش الاحتفالية، باعتبار عميدها أول سفير للإمارات قبل قيام الاتحاد.
أين أجد الكتاب؟ وكم قيمته؟