قال ذات كتابة: «الصديق هو جُزءٌ من العائلة»، ذلك هو الكاتب والروائي الأميركي، جاي مكينيرني، في بحثه الدائم عمَّا بعد العلاقات... عن الأثر الذي يتمخَّض عنها، في اكتمال الجنس البشري بصحة وعفوية وصدق وحرارة تلك العلاقات التي تثمر احتياطات مُذهلة من الاستقرار النفسي، والتفرُّغ إلى النظر والإبداع. إبداع كل شخص في المدى والمجال الذي يجد انسجامه فيه ومعه. لا تبرح كتاباته عالم الأصدقاء؛ حتى صار أحد الدَّالين عليه.
في عمله الجديد «أيام نفيسة، ساطعة»، يضعنا مكينيرني أمام شخصيتين: كورين ورَسَل؛ حيث قسَّما العالم وبشكل دائم إلى فِرق: الفن والحب مقابل السلطة والمال. وكانا يعتبران نفسيهما وكأنهما يلعبان أدوارهما لصالح الملائكة في خضمِّ التنافس الذي يعيشانه. الآن، ومكينيرني في الـ 61 من عمره، استحق المكانة التي حقَّقها ضمن انطلاقة مجموعة من الفنانين والكتَّاب، وليس واضحاً تماماً بعْدُ كيف بدا منسلخاً عن كل ذلك، حين بدأت ذاكرة رَسل تسكنه، أو تلخص كمَّاً كبيراً من السُخف الذي لم يَعْدَمه.
يتتبَّع مكينيرني، الفارق الذي يحدث في السن، بعد سنوات؛ من سن الخمسينات، وقوفاً عند عدم تغيُّر هيئة صديقين، كما يحدث لكبار السن. (كأن الزمن هنا في غياب عن إحداث مثل ذلك التغيُّر). يتناول العلاقات الزوجية التي تبدو دائمة، وما بينها من اعترافات. اعترافات أصدقاء بنقض الوفاء... لا يدخل في تفاصيل الخيانات الزوجية، لكن يكفي أن يكون أحد الأمكنة ماخوراً في نيويورك! في اللعب على الهواجس، وعدم تركها ببرَّانيتها، بقدر ما يطعِّمها بالروح التهكُّمية العالية، تلك التي لم تخْلُ منها معظم كتاباته.
جانيت ماسلين أنجزت إضاءة سريعة في صحيفة «نيويورك تايمز»، يوم الثلثاء (9 أغسطس/ آب 2016)، تنقَّلت من خلالها إلى أكثر من عمل، نورد جانباً منها، مع هوامش تطلَّبتها تفاصيل في ثنايا الإضاءة.
تشير ماسلين، إلى أن مكينيرني يكتب بشكل رائع بما فيه الكفاية؛ بحيث يمكن له أن يستغرق وقتاً طويلاً، لاستجلاء التأثر الغابر بالهواجس التي ترتبط به، وبالضرورة ترتبط بشخصياته. وكما هو معروف عنه، يظل مُحاولاً أن ينأى بنفسه عن جعل تلك الهواجس تهكُّمية. لكن الأمر خلاف ذلك. ثمة تهكُّم في ثنايا ما يصوغه ويرسمه عن شخصياته. في الحوارات التي تبدو عابرة ولا رابط بينها؛ ومع ذلك، لا يزال غير مستعد للتخلِّي عن الهواجس تلك؛ ولعل الأمر مرتبط بانعدام الخيار لديه.
لا مسار حقيقياً
كتب مكينيرني حتى الآن ثلاث روايات حول كورين وراسل كولوواى، وهما شخصان التقيا في سن المراهقة في جامعة براون، ووصلا في ثمانينات القرن الماضي إلى الجانب الشرقي من نيويورك، يحدُّهما الطموح، مع مزيج من أَعراض ما قبل استحواذ الملل على أي شخص نعرفه. (من الكتاب الأول: «بدأ كورين يشعر بالتعب بسبب الحفلات: حفلات العشاء وحفلات أعياد الميلاد، حفلات ما قبل النشر، حفلات الانتقال إلى المسكن الجديد؛ العطلة والدراسة والحفلات الافتتاحية الليلية، وكذلك ما يقابلها من حفلات الختام...»). ثمة مرجعية واستناد وتتبُّع لكل ذلك من خلال أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001. يعود الآن للنظر إليهما وقد ناهزا الخمسين عاماً، ونالت منهما الأزمات المالية الكثير، جرَّاء التضخم الذي يجتاح العالم، وكذلك الأزمات الزوجية وحتى الوجودية.
تحمل الكتب الثلاثة العناوين الآتية: «شلالات السطوع»، «رغد العيش» و «أيام نفيسة، ساطعة». ومن المثير للاهتمام أن نُدرك كيف أن العناوين تلك تظل قابلة للتغيير بكل سهولة ويسْر. هذه الثلاثية (حتى الآن) لا يوجد لها مسار حقيقي، على الضدِّ من الحياة الخاصة. الحياة الخاصة للبشر الذين عرفهم والتقى بهم. هكذا تُصنع الحيوات المُفترضة. الحيوات التي يُراد لها أن تكون في أعلى مراتب النموذج الذي يُبتغى. لكنها لا تخلو من الخيبات. لا تخلو من النقيض.
لم تبْدُ على كورين ورَسل آثار الكبر كثيراً كما هو الحال مع الآخرين؛ على رغم أنهما عرفا نجاحاً محدوداً في حياتهما. نجاحاً لا يكاد يُذكر، أو يمكن اعتباره فارقاً و (معظم النجاح تحقق لمكينيرني)، كل ما كان حاضراً ومتوافراً وسط ذلك النجاح المحدود، هو الشماتة التي لا حدود لها في خضمّ تلك الحياة. لقد شهدا تجربة زواجهما متعهِّدين بأن يكونا وفيِّين له؛ وصولاً إلى ما وراء نقطة انهيار ذلك الزواج. كما شهدا التألُّق بجميع أشكاله: باعتباره باعثاً على الحماس؛ حيث يأخذ بهما للحنين إلى ما فات وأدبر. إلى حيث باكورة الخسارات، ومسبِّبات الرهبة التي لم تخْل منها تلك الحياة.
فِرق العالم
قسَّم كورين ورَسل العالم وبشكل دائم إلى فِرق: الفن والحب مقابل السلطة والمال؛ حيث كانا يعتبران نفسيهما وكأنهما يلعبان أدوارهما لصالح الملائكة في خضمِّ التنافس الذي يعيشانه. ولأنه في الـ 61 من عمره، استحق المكانة التي حقَّقها ضمن انطلاقة مجموعة من الفنانين والكتاب، وليس واضحاً تماماً بعْدُ كيف بدا منسلخاً عن كل ذلك، حين بدأت ذاكرة رَسل تسكنه، أو تلخص كمَّاً كبيراً من السُخف الذي لم يَعْدَمه.
ليس رَسل وحده، ولكنه أيضاً الشاب مكينيرني، هذه المرة، كما تشير ماسلين، ذلك المتحمِّس في بداية كتابه «أيام نفيسة، ساطعة»، والذي يتناول فيه الفترة التي وفد فيها الشباب والشابات إلى نيويورك، وكانت «الفترة التي انبثقت فيها الكتب والمجلات، وحيث هي موطن جميع الناشرين، ومقر مجلة «نيويوركر» و «باريس ريفيو»، وحيث إرنست همنغواي وغواية غينسبرغ لكيروك (إروين ألن غينسبرغ، شاعر أميركي ولد في 3 يونيو/ حزيران 1926، وتوفي في 5 أبريل/ نيسان 1997. عُرف عنه معارضته الشديدة للنزعة العسكرية والمادية والقمع الجنسي، كان قيادياً بارزاً في «جيل بيت»، التي تتألف من مجموعة من الكتّاب والمثقفين الأميركيين الشباب الذين اشتهروا بالدفاع عن الحريات الشخصية في فترة الخمسينات من خلال أعمالهم الأدبية، من أشهر قصائده قصيدة «عواء») أما جان لويس «جاك» كيروك، فهو (شاعر وكاتب وروائي أميركي. ولد في 12 من مارس/ آذار 1922، وتوفي في 21 أكتوبر/ تشرين الأول 1969. يُعتبر محطّم التقاليد الأدبية كما أنه يُعدُّ، إلى جانب كل من: ويليام إس بوروز وألن غينسبرغ، رائداً من رواد مجموعة جيل بيت. يُعرف بأسلوبه التلقائي في الكتابة، وتغطيته لموضوعات مثل الروحانيات الكاثوليكية وموسيقى الجاز والإباحة الجنسية والبوذية والمخدرات والفقر والسفر)، متناولاً في هذا السياق، الدعوى القضائية التي رفعها هيلمان ضد مكارثي.
جاءوا كلهم من تطلّعات فيتزجيرالد والكوكايين، وكانت لمساهمات مكينيرني الخاصة دور في تجلِّي أساطير المدينة، والتي لا تزال قرينته في روايته الأخيرة، ومع ذلك يظل متمسكاً بالكثير من سخريته التي لا يتخلَّى عنها في كثير من أعماله.
يوظِّف مكينيرني ماخوراً راقياً في مانهاتن، كما يوظِّف الطريقة التي يمكن أن يتم تتبُّعها من قبل لاعب يتمتع بالقوة والذكاء، كفرصة للحصول على نماذج من الاعترافات فيما بين رجال متزوّجين منذ فترة طويلة.
ضوء
يُذكر أن الكاتب والروائي جون باريت (جاي) مكينيرني الابن ولد في 13 يناير/ كانون الثاني 1955. تتضمَّن الأعمال الروائية التي أصدرها، ولاقت صدى واهتماماً من النقاد: «أضواء ساطعة»، «مدينة كبيرة»، «فدية»، «قصة حياتي»، «شلالات السطوع»، و «آخر الهَمَج».
تخرَّج من كلية وليامز في العام 1976. وحصل على درجة الماجستير في الآداب من جامعة سيراكيوز، كما درس الكتابة مع ريموند كارفر.
قام بتحرير كتاب بنجوين للأصوات الأميركية الجديدة، كما كتب سيناريو فيلم العام 1988، بتكييف لروايته «الأضواء الساطعة»، و «مدينة كبيرة»، وشارك في كتابة سيناريو لفيلم تلفزيوني حمل اسم «غيا»، وهو فيلم درامي تم إنتاجه في الولايات المتحدة في العام 1998، من إخراج ميشيل كريستوفر، وبطولة أنجلينا جولي وفاي دوناوي وإليزابيث ميتشيل.