العدد 5090 - السبت 13 أغسطس 2016م الموافق 10 ذي القعدة 1437هـ

تأريخ للجرائم المجهولة نسبيًا للاستعمار البلجيكي في الكونغو

«شبح الملك ليبولد» للكاتب آدم هوكسجايلد...

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

المنامة - محمد عبدالله عبدالرسول 

تحديث: 12 مايو 2017

اختار الكاتب الأميركي آدم هوكسجايلد لكتابه «شبح الملك ليوبولد» عنوانًا فرعيًا لخّص محتواه «قصة عن الجشع، الإرهاب والبطولة في إفريقيا الكولونية»، فقد وثّق إحدى أكبر الجرائم التي وقعت في العصر الحديث، ولكنها على رغم ذلك جريمةٌ غير معروفةٍ نسبيًا. من منّا لم يسمع عن الهولوكوست النازي الذي راح ضحيّته ما يقارب الستة ملايين يهودي؟ ولكن في المقابل من سمع عن جرائم الملك البلجيكي ليوبولد الثاني في الكونغو والتي راح ضحيتها ما يقدّر بعشرة ملايين شخص بين الأعوام 1885 و1908؟ صورةٌ في أحد حسابات «الانستغرام» وضعت هذين السؤالين ودفعتني للبحث أكثر عن هذه الجريمة التي نسيها أو تناساها العالم إلى حد كبير.

يبدأ هوكسجايلد كتابه بمقدمة تاريخية عن الكونغو قبل وأثناء وبعد اكتشاف الأوروبيين لهذا البلد والذي سميّ على اسم النهر العظيم الذي يقطعه من جنوبه لشماله، ومن شرقه لغربه. على رغم أن الأوضاع لم تكن ممتازة قبل الغزو الأوروبي، إلا أن تجارة العبيد عبر الأطلنطي كانت أشد سوءًا بكثير. يذكر الكاتب أيضًا تمثيلات الأوروبيين لدى الأفارقة والعكس وهو ما يوّضح طبيعة العلاقة غير المتوازنة التي كانت بينهم. يستمر العرض التاريخي حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث تبدأ الأحداث الرئيسية.

يعرض الكاتب الأحداث عن طريق تتبع حياة سبع شخصيات تاريخية، بعضها ساهمت في توثيق الجرائم وكشفها للرأي العام والأخرى ساهمت في ارتكابها والتستر عليها. أول الشخصيات هي للمكتشف والصحفي البريطاني الشهير هنري ستانلي الذي كان أول من قطع نهر الكونغو بأكمله وساهم في تكوين أساس المستعمرة البلجيكية في ذلك البلد لاحقًاً، وظل يدافع عنها إلى آخر عمره. يتتبع الكاتب كذلك حياة الشخصية الأبرز في قصة الإجرام هذه وهي شخصية الملك ليوبولد الثاني، الذي يشبّهه بالثعلب المكّار. كان ليوبولد منذ شبابه يطمح في امتلاك مستعمرة ما، يعوّض بها تقلّص سلطات الملك والتي كانت في تراجع مستمر في أوروبا خلال هذه الفترة مع التحولات الديمقراطية التي أعطت للبرلمانات المنتخبة اليد العليا. أما الشخصيات الخمس الأخرى فهي للأبطال الذين اكتشفوا ووثقوا الجرائم الرهيبة التي حدثت في الكونغو.

نجح ليوبولد الثاني - باستخدام حيل كثيرة أبرزها «البروباجاندا» التي برع فيها - في الحصول على اعتراف دولي بـ «دولة الكونغو الحرة»، وهو الاسم الذي أطلقه على هذه المستعمرة العملاقة التي تفوق مساحتها مجموع مساحات بريطانيا وفرنسا وإيطاليا مجتمعة. كانت هذه المستعمرة غنية بالفيلة والتي كانت تقتل لأجل عاجها غالي الثمن. استغل ليوبولد - الذي لم تطأ قدماه أراضي الكونغو - السكَّان المحليين في الحصول على العاج وكانت المعاملة الاستعمارية قاسية جدًا، حيث استولوا على الأراضي وكانوا يجبرون السكان على العمل بأجرٍ زهيدٍ جدًا أو دون أجر.

وقد ازدادت مآسي الكونغوليين بعد اكتشاف أهمية المطاط في الصناعات، لأن الكونغو كانت مليئة بأشجار المطاط. خلال ما أطلق عليه الكاتب حقبة «إرهاب المطاط» كان على كل قرية أن تجمع كمية كبيرة من المطاط كل شهر، وكانت عائلاتهم من النساء والأطفال والشيوخ تؤخذ كأسرى، وإن لم يوفّر الرجال الذين يقضون معظم أيام الشهر في الغابة المقدار المطلوب، تستعبد أو تقتل عائلاتهم. وقد انتشرت ظاهرة قطع الكف اليمنى للموتى وأحيانًا الأحياء، حيث اعتبر كإثبات لاستخدام الجنود للذخيرة في أمور تخص الدولة، بدلًا من إهدارها في صيد الحيوانات البرية. وهناك عدد كبير جدًا من الجرائم لا يسع المجال لذكرها، ولكنها تدمي القلب، خاصة عند اقتباس شهادات الضحايا بشكل مباشر. يقارن الكاتب بشكل مستمر هذه الجرائم بتلك التي حصلت أيام هتلر وستالين، ويصنّف ليوبولد كأحد كبار المجرمين في التاريخ.

كان كل هذا يتم في الوقت نفسه الذي كان ليوبولد يتمتع في العالم الغربي بسمعة الحاكم الطيّب ذي المهمة الإنسانية العظيمة في نشر تعاليم الحضارة في إفريقيا ومكافحة تجارة العبيد. لقد أجاد هذا الحاكم استخدام وسائل الإعلام والتي أصبحت شبه عالمية في ذلك العصر، وخصوصًا بعد اختراع التليغراف. لذلك كانت مهمة أبطالنا الخمسة والكثير من أعوانهم صعبة في كشف الجرائم وتحريض الرأي العام على إيقافها. يصف الكاتب هذا المشروع بأول حركة عالمية لحقوق الإنسان في التاريخ، حيث كانت هناك حرب إعلامية بكل معنى الكلمة شملت الصحف، الكتب، لجان التحقيق، الكنائس وغيرها، بل ووصلت لبرلمانات وحكومات الدول الكبرى كبريطانيا التي كانت القوة الأولى في العالم.

يخبرنا الكاتب في الخاتمة بأن هذه الجرائم لم تكن خاصة بالكونغو فقط، فعلى رغم أن الاستعمار البلجيكي كان مختلفًا بعض الشيء من حيث طبيعة السيطرة عليه من قبل رجلٍ واحد هو ليوبولد بدلًا من سيطرة الدولة عليه، فإن الاستعمار الأوروبي لإفريقيا بشكل عام كان قاسيًا جدًا، ولم يختلف كثيرًا عمّا جرى في الكونغو. يُظهر الكتاب بشكل مؤلم جدًا الجانب الأسود من تاريخ أوروبا، فكثير من صروح هذه القارة لم تقم إلا بعرق وأشلاء الشعوب الأخرى. ويُظهر كذلك سرعة نسيان المستعمرين وبشكل متكرر عبر التاريخ لجرائمهم وكأنها لم تكن! بل إن الأمر يصل في بعض الأحيان إلى التزوير الصريح والفج للتاريخ على مستوى رسمي كما حصل في الكونغو، فيظهر المجرم في صورة ملاكٍ خيّر.

لم تنته القصة هنا، فلا زال هناك فصلٌ أخير يتحدث فيه الكاتب عن تاريخ الكونغو ما بعد الاستقلال من بلجيكا وكيف يستمر الاستعمار في صورة اقتصادية وفي إعانة الحكام الديكتاتوريين الذين ينهبون خيرات البلد ويقمعون أهله، تمامًا كما فعل ليولوبد قبل ذلك بعقود. ينتهي الكتاب بنبرة إيجابية حول ظهور حركات حقوق الإنسان العالمية ومهمتها الأساسية في التصدي للظلم في كل بقاع المعمورة.

على رغم رفض نشره من قبل تسع دور نشرٍ في أميركا، فقد حقق الكتاب نجاحًا كبيرًا بعد نشره في العام 1998 وحصل على جائزتين مرموقتين، وتم تحويله إلى فيلم وثائقي حمل اسم الكتاب نفسه، وهو جدير بالمشاهدة. إلا أن النجاح الأكبر للكتاب هو نشره لمظلومية شعب الكونغو، وهو ما يعطينا صورة دقيقة حول كيفية عمل الأنظمة الظالمة على مستوى الإعلام والمنظمات الدولية وكيفية هزيمتها على هذه الصعد.

نجح الكاتب هوكسجايلد في جعل الشخصيات حية ومتفاعلة. لا شك أنه فطِن إلى أن البشر وبحكم طبيعتهم البشرية لا يتفاعلون بشكل قوي مع الجرائم إلا عندما يشعرون بالارتباط مع الضحايا بشكل شخصي، ولذلك سعى منذ البداية إلى سرد كتابه على طريقة القصة بدلًا من جعله كتابًا تاريخيًا مملًا.





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 5:48 ص

      يا الله .. إحنا نعيش في غابة مو في عالم متحضر

    • زائر 2 | 3:09 ص

      منذوا فترة قصيرة جداً ( حوالي أسبوعين) يعرض في السينما فلم أجنبي أسمه: THE LEGEND OF TARZAN
      ويحكي هذا الفلم بعض جرائم المستخرب البلجيكي للكونغو !
      شكراً للوسط.

    • زائر 1 | 3:01 ص

      بعد كل هذه الجرائم بحق الشعوب المحرومة و سلبهم ، يوصفون بالمتأخرين و القذرين و يندهشون عندما يعرفون بأن تلك الشعوب تكره ملوك و سلاطين الغرب المستعمر !

اقرأ ايضاً